يوليو 10, 2021 التجلي والإنفتاح على ملكوت الله

التجلي والإنفتاح على ملكوت الله

      لا شك أن حادث التجلي يُمثل نموذج تعزية وعربون للملكوت الآتي.  فهو من أقوى وأعمق الأحداث التي تَممها المسيح في حياته على الأرض، لأنه يتحدث عن إستعلان ملكوت الله في وسط البشر.  يذكر لنا متى الإنجيلى عن حادثة التجلي ويقول: “وَبَعْدَ سِتّةِ أَيّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَل عَال مُنْفَرِدِينَ. وَتَغَيّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنّورِ. (متى17: 1-2)” لقد إصطحب الرب معه في التجلي ثلاثة من تلاميذه فقط وهم بطرس ويعقوب ويوحنا. فعبارة  “فانفَردَ بِهِم” تشير إلى إنعزالهم عن باقي التلاميذ، مما يُثير التساؤل: لماذا هؤلاء الثلاثة فقط دون باقي التلاميذ؟! 

 إن إنفراده بهؤلاء الثلاثة فقط يدل على أنهم في علاقة حميمية مع الرب يسوع، ولأنهم الأكثر إشتياقاً وتجاوباً وإنفتاحاً عليه، والأكثرإستقبالاً لكلمته. حيث نجدهم أيضاً في أحداث أخرى مثل إقامة إبنة يايروس منفردين معه.  لذلك سنتكلم بالتفصيل عن هذا الإنفتاح والإنفراد.

أولاً الإنفتاح: الإنفتاح هو أحد مظاهر الحميمية، أى الإتحاد بين شخصين. ونجد في ذلك أن الله لا يميز شخص عن آخر ولكنه إختيار الإنسان بناءاً على مدى تجاوبه. تلك الحميمية والإنفتاح تكون مثل عصارة النبات التي تَسري في الجزع وتمتد للأغصان، فهناك أغصان تأخذ من العصارة (إنفتاح) بقدر أكبر من الآخرين فيكون لها نمو وثمر أكثر، وأخرى بعيدة قليلاً فتأخذ عصارة أقل من المجموعة الأولى فيظهر بها ثمار أقل ونمو أقل، ومن ثَم يتأخر نموها، وهناك أغصان أصابها خلل معين فتتسرب منها العصارة شيئاً فشيئاً، فتكون بلا ثمر إلى أن تجف تدريجياً، وتنفصل عن الأصل ويكون مصيرها الإلقاء في النار. وهذا لا يعنى أن المجموعة الأولى تكون كاملة، ولكنها مازالت تتكمل، وهذا يستمر إلى نهاية حياتها. لقد كان هذا الإنفتاح هو السبب الرئيسي الذي جعل بطرس ويعقوب ويوحنا أعمدة الكنيسة، وهكذا كل إنسان ينفتح قلبه ويتجاوب مع كلمة الله، يرتاح فيه الله ويقول عنه: “هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ”، ويصير إناء جيد للإستخدام.

ثانياً الإنفراد: نلاحظ كثيراً أن المسيح يأخذ التلاميذ على إنفراد. وهنا صعد بهم على جبل عالٍ منفردين، والحقيقة أنه بدون هذا الإنفراد لا يمكن لإنسان أن يدخل في علاقة شركة حقيقية مع الله ويَعرف فكر الله ويستقبل مشيئته، فالمسيح نفسه كان يفعل ذلك حين كان يُصلي ” وَبَعْدَمَا صَرَفَ الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ مُنْفَرِدًا لِيُصَلّيَ” (مت 14: 23). والجبل بالمفهوم اليهودي في الكتاب المقدس يشير للإنفراد بالله، فكل من كان يصعد على الجبل، مثل إبراهيم وموسى وإيليا، كان يصعد لملاقاة الله والتكلم معه، هذا الإنفراد ينتج عنه رؤية الرب وجهاً لوجه، وإستقبال إعلاناته والأسرار الإلهية التي لا نستطيع التكلم عنها.

وحدث أنه فور تَجلي المسيح بهذا الشكل وسماع صوت من السحابة أن التلاميذ سقطوا على وجوههم، “وَلَمّا سَمِعَ التَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدًّا” مت (6:17 ) فعند إستعلان عظمة المجد الإلهي في الإنسان يسوع المسيح، والذي ينتظره كل إنسان فينا، هذا لا تحتمله الطبيعة البشرية، وتلقائيا تنحني أمامه كل نفس. لأن هذا المجد ما هو إلا إختراق لطبيعتنا المادية، فالله يريد أن يكافئنا بالمجد الإلهي ونكون محاطين به كما في السحابة المضيئة بحادثة التجلي.

ثم يقول لهم المسيح: “لاَ تُعْلِمُوا أَحَدًا بِمَا رَأَيْتُمْ حَتّى يَقُومَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ” (مت9:17) لقد أخد يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا لكي يشاركهم بكل ما بداخله ويأتمنهم عليه. كما أوصاهم المسيح ألا يخبروا أحداً بما رأوه، حتى أقرب الناس إليهم – باقي التلاميذ. ومن ذلك نتعلم أن الإنسان لا يخبر أحداً بما إستقبله من الله إلا بعد أن يتضح ويتعمق ويستقر داخله أولاً. فالعذراء مريم كانت تحفظ كل الأمور في قلبها إلى أن نقلته إلى التلاميذ بعد صعود السيد المسيح. وبطرس ويعقوب ويوحنا هم أيضاً حفظوا هذا الكلام بداخلهم عدة سنوات ثم تكلموا عنه فيما بعد، فإعلانات الله تُحفظ في القلب إلى أن يحين وقت إعلانها.

بعد ذلك قال بطرس «يَا رَبُّ، جَيّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ”(مت 17: 4). والمظال أي الخيام مرتبطة بعيد المظال عند اليهود، إذ كانوا يحتفلون بحضور وسكنى الله في وسطهم بعد خروجهم من أرض مصر. “لكي تعلم أجيالكم أني في مظالَّ أسكنتُ بني إسرائيل لما أخرجتُهُم من أرض مصر“(لاويين 23: 39-44)، فكان ذلك تأسيساً لمملكة الله في وسط شعبه. وعيد المظال يشير إلى “مواعيد للمقابلة” بين الله وشعبه، وهي نفس الكلمة المُستعملة في (خر22:25)  “وَأَنَا أَجْتَمِعُ بِكَ هُنَاكَ وَأَتَكَلّمُ مَعَكَ”. وهنا نجد أن ما رآه بطرس يسترجع بداخله مملكة الله في وسط البشرلذلك يقول “نقيم خياماً”، لأن هذا يذكره بعيد المظال قديماً، فبطرس قد أُستعلنت له الحضرة الإلهية، وهذا ما جعله يقول “نصنع المظال هنا”.

وما نريد أن نركز عليه في حادثة التجلي، هو إستعلان الله الآب في الإنسان يسوع المسيح. فبالمسيح صار الله في الإنسان، والإنسان في الله ولا نستطيع التفريق بينهم. فكلمة ” تغيرت هيئته” لا تشير فقط لتغيير الهيئة،إنما يقصد بها أن تنكشف أو تظهر هيئته، هذا هو التجلي في حقيقته، أن الله تَتكشف حقيقته أمامنا. وبهذا نعرف أن الله  يريد أن يرتاح في نفس الإنسان، أي في كل شخص منا.               

                                                                                                                                                                  شريف مراد

اترك رد