أغسطس 9, 2021 التـــــــــلمذة

التـــــــــلمذة

تأتي كلمة تلميذ في اليوناني mathētḗs (μαθητής) وهي تعني: “من ينخرط في عملية التعلم بتبعيته وأرتباطه بمعلم ما”. والتلمذة قد تكون لها أبعاد متسعة، وتصنيفات عديدة. لكن ما نبحثه هنا هو موضوع التلمذة المسيحية، والتي نجد أن لها ضوابط وأسس تمتاز عن أي نوع أخر من التلمذة في هذا العالم. ولكي تبدأ التلمذة ولكي يدعى أحد ما تلميذاً فذلك يتطلب بالأساس وجود معلم. وبالطبع معلمنا الأوحد هو الرب يسوع المسيح، إذ قال “وَلاَ تُدْعَوْا مُعَلّمِينَ لأَنَّ مُعَلّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ” (مت 23: 10). وبالرغم من ذلك إلا أن المسيح طلب من رسله وكنيسته أن تكون مهمتهم في العالم كالتالي: “اذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ” (مت 28: 19، 20). لقد أختص المسيح الكنيسة بتلمذة العالم. والتلمذة هي في إطار ملكوت الله بالإيمان بالثالوث القدوس. وتصير الكنيسة هي قناة لإمتداد تعليم المسيح لكل إنسان قَبِّل دعوة التلمذة.

فالتلمذة هي دعوة شخصية قبل كل شيء، دعوة من المسيح للإنسان، سواء بطريقة مباشرة مثل ما حدث مع فيلبس إذ يقول: “فِي الْغَدِ أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْجَلِيلِ فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ فَقَالَ لَهُ: «اتْبَعْنِي»” (يو1: 43)، أو بطريقة غير مباشرة أي من خلال تلاميذ يتبعوا المسيح بالفعل، مثلما حدث مع نثنائيل إذ أن “فِيلُبّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: … «تَعَالَ وَانْظُرْ»” (يو1: 45، 46). وهنا نقطة هامة قد تسبب ضرر بالغ إذا لم ننتبه إليها. إن المسيحيين الأوائل الذين أنضموا إلى الكنيسة بالكرازة، كانوا في خلال مسيرة حياتهم الأولى يصلون إلى مفترق طرق يتطلب قرار، إما قبول دعوة التبعية للمسيح، أو رفض هذه الدعوة، متغربين عن الحياة مع الله. أما في زماننا الحالي فالإنسان يولد مسيحياً ويتم معموديته رضيعاً تحت وصاية إشبينه الروحي. وبالتالي يفتقد الواحد منا هذه النقطة الحاسمة التي يتم فيها إعمال الإرادة الحرة بإختيار التبعية للمسيح وقت المعمودية. لكنه لا يوجد ما يعفي الإنسان من هذا القرار الحر مهما طالت حياته. سيتوجب عليه آجلاً أو عاجلاً القيام بهذه الخطوة، في مرحلة ما من حياته سيتواجه مع ضرورة الاختيار بين أن يحيا مسيحياً اسميا أو أن يحيا كتلميذ. وستبقى حياة الإنسان الروحية وتبعيته للمسيح متذبذبة حتى يستلم هذه الدعوة الشخصية من المسيح. فكل تلميذ هو مسيحي ولكن ليس كل مسيحي هو تلميذ، هذا ما نفهمه من الكلمات التالية: “وَدُعِيَ التَلاَمِيذُ «مَسِيحِيِينَ»” (أع11: 26).

في السطور التالية نحاول التعرف على كيفية تحقق التلمذة في حياة المؤمن، من خلال ركائز أساسية، وإن كانت ليست حصرا، تعين الإنسان في رحلة نموه نحو شبه المسيح.

  • تبعية يسوع

أن يصير الإنسان تلميذاً للمسيح فذلك يتطلب هذا الإشتراط شديد الصعوبة- بالرغم من كونه متضمن في بضعة كلمات بسيطة- في عبارة المسيح التالية: “اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ” (مت11: 29). إن التلمذة بالتعلم من المسيح لا يمكن أن تبدأ إلا من خلال الوداعة والإتضاع. فالوديع هو إنسان طيع للتشكيل، والمتضع هو إنسان يعرف قدر نفسه الحقيقي ولا يعتد بما لديه. فالمتكبرسيصير رافضاً لاستقبال أمر جديد مكتفياً بما وصل إليه مقتنعاً بكماله الزائف. هكذا فإنه بدون الوداعة والإتضاع يتولد حاجز منيع في وجه عملية التعلم.

أما مجال التلمذة المسيحية فهو تلمذة على مستوى الحياة. فيها ينتقل الإنسان من حياة سابقة يسودها الموت والفساد والعبودية والعزلة والفردية إلى حياة أبدية ملؤها النور والحرية والقداسة والشركة مع الأخر. لذلك يضع المسيح لنا هذه الأداة الإلزامية للاستمرار في التلمذة المسيحية، والتي هي الصليب، قائلاً:  “إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ حَتّى نَفْسَهُ أَيْضاً فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. َمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً” (لو14: 26، 27). ومن ثم فإن منتهى هذه التلمذة كما يقول القديس بولس هو “أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ” (غل 4: 19).

ومعنى أن التعلم يكون على مستوى الحياة فيقصد به أن التحول في حياة التلميذ يشمل كل كيانه من أفعال وأفكار وسلوك بل وحتى اتجاهات القلب وميوله من نحو الله والإنسان. ونجد أن ذلك مستحيلاً من دون اتحاد حقيقي بشخص المسيح والذي يبدأ في المعمودية ويمتد ويتعمق على مدار حياة الإنسان ويكون أن وصايا المسيح وحفظها يجب أن يتخطى الحفظ على مستوى الكلمات فكريا، بل أن تصير الكلمات جزء من الكيان كما يقول المرنم “سمر خوفك في لحمي”، فمن أين يأتي الإنسان بهذه القدرة على الثبات في كلمة الميسيح كما طلب هو لإتمام تلمذتنا، “فَقَالَ يَسُوعُ لِلْيَهُودِ الّذِينَ آمَنُوا بِهِ: «إِنّكُمْ إِنْ ثَبَتّمْ فِي كلاَمِي فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تلاَمِيذِي وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ” (يو8: 31، 32). الحقيقة هي أن ذلك يتطلب عمل الروح القدس الخلاق في قلب الإنسان.

  • تلمذة الروح

إن الروح القدس هو من يستحضر المسيح وكلماته في قلب الإنسان، أي أنه هو الوسيط بين التلميذ والمعلم المسيح، ذلك ما عبر عنه المسيح قبل صعوده، “أَمّا الْمُعَزّي الرّوحُ الْقُدُسُ الّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ” (يو14: 26). التذكر هنا ليس على قياس استرجاع بعض المعلومات الدراسية، ولكنه قوة عاملة في النفس البشرية، هو روح وحياة. فيسير المؤمن مسية التلمذة في تبعية لشخص المسيح بقيادة الروح القدس وقدرته الخلاقة على تشكيل التلميذ على صورة المسيح بحسب قول المسيح نفسه “أَنّهُ (الروح القدس) يَأْخُذُ مِمّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ (يعطيكم)” (يو 16: 14). ومن خلال هاتين النقطتين، تبعية المسيح وتلمذة الروح يجب أن نتناول كل النقاط التالية كما مجال لتحقيقهما.

  • القراءة

ستبقى القراءة هي جزء لا غنى عنه في أي نوع من عمليات التعلم، حتى وإن كان التعليم روحياً. فالتلمذة المسيحية ترتكز على التعلم من الكتاب المقدس وذلك بالإضافة كتابات الآباء وسير القديسين والقوانين الكنسية وقرارات المجامع وأيضاُ الكتب الروحية والتي هي إمتداد لعمل الروح القدس في الكنيسة بواسطة أعضائها الكثيرين. إذ أن كل ما سبق هو تعليم رسولي مسلم من المسيح ومتراكم على مدار تاريخ الكنيسة.

وعجباً نجد من المؤمنين من يقول “أنا لاأحب القراءة”، من دون وجود عائق حقيقي للقراءة. وكأن ذلك نوع من ممارسة الحرية الشخصية أو أنه شيء ما يختص بالذوق في انتقاء هواية ما. وفي المقابل نجد أن المسيح يوصي بالتالي: “فَتّشُوا الْكُتُبَ لأَنّكُمْ تَظُنّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيّةً. وَهِيَ الّتِي تَشْهَدُ لِي” (يو 5: 39). فبقدر الماومة على  القراءات الروحية بقدر ما ينمو الإنسان روحياً في رحلة تلمذته للمسيح. وإن كان يجب أن نقر هنا أن القراءة وحدها هي غير كافية، بل تاخذ على أنها وسيلة يعمل من خلالها الروح القدس في تصوير المسيح في أعماق القلب.

  • موهبة التعليم

كما ذكرنا سابقاً فإن المسيح هو المعلم الأوحد في كنيسة، ولكن ذلك لا يمنع أنه يمنح تعليمه لتلاميذه المؤمنين بواسطة أدوات بشرية، وهم من نسميهم المعلمين الكنسيين. وهنا نجد أن المعلم الكنسي يقوم بدوره الذي استلمه من الروح القدس كموهبة روحية تسمى “موهبة التعليم. وبالتالي يصير التعليم في الكنيسة هو عملية إلهام من الروح القدس لهؤلاء المعلمين الخاضعين لسلطانه والأمناء في نقل ما يملأهم به. ولكن الحذر هنا واجب، فلا يمكن أن يكون الإنسان معلماً كنسياً حقيقياً أميناً إلا إن كان تلميذاً في الأصل، مستمرا في عملية التعلم من المسيح. وبناءا على ذلك فإن المعلم الأمثل هو من يتجلى فيه شبه المسيح، كما يقول بولس “كُونُوا مُتَمَثّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضًا بِالْمَسِيحِ” (1 كو 11: 1). وبالتالي يكون المعلم الأقل شأناً هو من يعطي تعليم نظري غير متجسد في حياته كما هو الحال في نموذج الفريسيين، والذين قال المسيح في شأنهم: “عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيّونَ، فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ، وَلكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا، لأَنّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ” (مت 23: 2، 3). من هنا نجد أن الأب الروحي كمعلم هو الأكثر تأثيرا في حياة التلميذ، إذا ما توافر في العلاقة بينهم المحبة والثقة والطاعة والإلتزام بإستكمال المسيرة بالرغم من كل الصعاب.

 لكن أيضا يمكن للمؤمن أن يتعلم من كل إنسان إن كان لديه إشتياق للتلمذ للمسيح. كل من نقابلهم قد يعلمونا شيئاً له بُعد أبدي.

  • الشركة

لقد أسس المسيح التلمذة المسيحية على نظام الشركة، أي التعلم في إطار مجموعة بينها روابط وعلاقات حميمة. وقد ثبتت فاعلية هذا النظام حتى على المستوى العلماني في الهيئات التعليمية المختلفة. فإن “الْحَدِيدُ بِالْحَدِيدِ يُحَدَّدُ، وَالإِنْسَانُ يُحَدِّدُ وَجْهَ صَاحِبِهِ” (أم 27: 17). إن حياة الجماعة لها فوائد عدة في مجال التلمذة أهمها هو التشجيع والوحدة لتحقيق هدف مشترك. بالإضافة إلى مساعدة الإنسان لقبول نفسه بالرغم من محاولاته الفاشلة وضعفاته المشينة. وإذا ما فتر عضو، يعضده باقي الأعضاء. إلا أن الأعجب في حياة الجماعة هو عندما ينكشف عن عيون الإنسان الحضور السري للمسيح في كل واحد من أعضاء جسد المسيح. فتصير الجماعة هي مدرسة حية، ليس فقط في أوقات الإجتماعات الروحية أو المحاضرات، لكن أيضا تمتد التلمذة إلى جوانب الحياة المختلفة حتى في بعدها الإجتماعي.

  • الإختبار

سيظل الإختبار هو المعيار الذي يضمن تحقق تلمذة حقيقية في حياة الإنسان. والإختبار هنا يحمل مدلول شخصي، فالإختبار هو إختباري “أنا”. ولا يصح أن يكون التلميذ ناقل لإختبار غيره، أو يحاول إستذكار ما تحقق في حياة الأخرين. فالإختبار يتحتم فيه عملية إنعكاس لما يتعلمه الإنسان على داخله، فيثمر في كيانه بطريقة مميزة عن أي شخص أخر. وذلك يبدأ ببالمقابلة الشخصية مع شخص الرب يسوع المسيح، ويتبعه الدخول في بنوة حقيقية لله الآب. ثم شيئاً فشيئاً يكتشف الإنسان دواخله في عملية متسلسة من التغير والتجديد الكياني. بخبرات عملية في الحياة والعلاقات بل وأيضا في الصلاة والقلب. فيتحقق تدريجياً ما يسمى بختبار الله أو معرفته. تلك المعرفة التي تفوق المعرفة الفكرية بكثير.

                                                                                                                                                                      د/ شريف مــــراد

اترك رد