حلَّ عليه الروح القدس لكي يحلَّ علينا ويسكن فينا:
عندما خلق الله الإنسان «نفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حيَّة» (تك 2: 7). ولكن لما تهاون آدم في حفظ الوصية المُعطاة له، لم يجد الروح راحة في جنس البشر، حتى أنَّ الرب قال عنهم في أيام نوح: «لا يلبث روحي في الإنسان إلى الأبد، لزيغانه هو بشر» (تك 6: 3).
لذلك تنازَل ابن الله الكلمة بمحبته للبشر وصار إنساناً، دون أن يتحوَّل عن كونه إلهاً. ولما أزف الوقت لكي يبدأ الرب خدمته حسب التدبير، جاء إلى يوحنا المعمدان ليعتمد منه في نهر الأردن: «وشهد يوحنا قائلاً: إني قد رأيتُ الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقرَّ عليه. وأنا لم أكن أعرفه. لكن الذي أرسلني لأُعمِّد بالماء، ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلاً ومُستقرّاً عليه، فهذا هو الذي يُعمِّد بالروح القدس. وأنا قد رأيتُ وشهدتُ أنَّ هذا هو ابن الله» (يو 1: 32-34).
فإن كان الذي تَقبَّل الروح القدس، عندما تعمَّد بالماء من يوحنا المعمدان، هو نفسه الذي سيُعمِّد بالروح القدس، فمِن البديهي أن يكون قد قَبِلَ الروح ليس لنفسه، بل بالحري لنا نحن الكائنين فيه لكونه قد اتَّحد بنا ولَبِسَ طبيعتنا. وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير:
” إنَّ المسيح لم يقبل الروح لنفسه هو، بل بالحري لنا نحن فيه، لأن جميع الخيرات إنما تتدفَّق فينا نحن أيضاً بواسطته. فنظراً لأن آدم أبانا الأول لمَّا تحوَّل بالغواية إلى المعصية والخطية لم يحفظ نعمة الروح، وبذلك فقدت أيضاً الطبيعة كلها فيه عطية الله الصالحة. فكان لابد أن الله الكلمة الذي لا يعرف التغيير يصير إنساناً، لكي إذ يقبل العطية بصفته إنساناً يحتفظ بها على الدوام لطبيعتنا….”
تحمَّل الآلامَ والموتَ عنَّا لكي يهبنا الخلاص والقيامة:
يقول القديس كيرلس الكبير أيضاً:
” إنَّ الكلمة، الابن الوحيد، اقتنى لنفسه خاصةً الجسد الترابي… وماذا كانت غايته من ذلك؟ أن يُميت الخطية في الجسد ويُخمِد شوكة الغرائز المنغرسة فيه التي كانت تدفع الجسد نحو الشهوات المعيبة. ولم يُحقِّق ذلك – أعني التفوُّق على الأوجاع التي فينا – لمنفعته الشخصية بصفته الله الكلمة، إذ أنه هو لم يعرف خطية؛ بل بالحري كمَن يُعيد تشكيل طبيعة الإنسان كلها من الأساس، في نفسه، إلى حياة مُقدَّسة وبلا لوم، لمَّا صار إنساناً وظهر في الهيئة مثلنا.
فقد صار «متقدِّماً في كـل شيء» (كو 1: 18)، حتى أننا نحن أيضاً حينما نتبع خطواته، ننال في أنفسنا ”إماتته“ أي اضمحلال قوة الخطية من أجسادنا؛ وهكذا نتمكَّن بواسطته أن نرتقي إلى الحياة التي بلا لوم.”
هنا يشرح لنا القديس كيرلس الكبير، كيف أنَّ الإله المتجسِّد اقتنى لنفسه جسداً ترابياً كجسدنا لكي يتألَّم بما نتألَّم به ويتجرَّب بما نتجرَّب به؛ أي أنه لا يعرف هذه الآلام كإله فقط، بل يعرفها أيضاً كإنسان، لكي كما يقول بولس الرسول: «لأنه في ما هو قد تألَّم مُجرَّباً يقدر أن يعين المجرَّبين» (عب 2: 18). وإن كان الله بالطبع لا يتأثر بشيء، إلاَّ أن بولس الرسول يُشير هنا إلى آلام الرب التي عاناها بالجسد وتغلَّب عليها، وأعطانا قوة النصرة عليها في أجسادنا.
وهذا ما قاله بطرس الرسول: «فإذ قد تألَّم المسيح لأجلنا بالجسد، تسلَّحوا أنتم أيضاً بهذه النية. فإن مَن تألَّم في الجسد، كُفَّ عن الخطية» (1بط 4: 1).
كما أوضح بطرس الرسول: «إنَّ المسيح أيضاً تألَّم لأجلنا، تاركاً لنا مثالاً لكي تَتَّبعوا خُطُواته» (1بط 2: 21)، ثم أكمل قائلاً:
«الذي إذ شُتِمَ لم يكن يَشتم عِوَضاً، وإذ تألَّم لم يكن يُهدِّد بـل كان يُسلِّم لمَن يقضي بعدلٍ. الذي حَمَلَ هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبرِّ» (1بط 2: 24،23).
أما عن آلام الموت فقال: «فإنَّ المسيح أيضاً تألَّم مرة واحدة من أجل خطايانا، البارُّ من أجل الأَثَمَة، لكي يُقرِّبنا إلى الله، مُماتاً في الجسد ولكن مُحْيىً في الروح» (1بط 3: 18).
فالرب قد ذاق الموت بالجسد، ولكنه كان حيّاً بروحه، فقتل وهدم الموت بموته وأظهر القيامة بقيامتـه. وإذ كنَّا فيه «فدُفِنَّا معه بـالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح من الأموات، بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جِدَّة الحياة. لأنه إنْ كنَّا قد صرنا متَّحدين معه بشِبْه موته، نصير أيضاً بقيامته. عالمين هذا: أنَّ إنساننا العتيق قد صُلِبَ معه ليُبْطَل جسدُ الخطية، كي لا نعود نُستَعبَد أيضاً للخطية» (رو 6: 4-6).