إن لاهوت القديس أثناسيوس مبنى على أساس ظهور المسيح المخلص تاريخياً، وأنه تأنس الإله. إن حقيقة الخلاص هو برهان أثناسيوس الذى أثبت به ألوهية الكلمة المتجسد، لأنه فقط بتجسد الابن الوحيد يمكن أن يأتى الخلاص. فهو يرى أن المفهوم الحقيقى لكلمة الخلاص هو يكمن فى إتحاد الطبيعة الإنسانية المخلوقة بالله نفسه، وهذا الإتحاد لا يمكن أن يحدث إلا بأن يتخذ الله نفسه جسداً، ويصبح إنساناً. “فالخلاص إذا هو إشتراك طبيعتنا الإنسانية فى الطبيعة الإلهية”. فالخليقة وُجدت من عدم ولذلك فان طبيعتها تتأرجح وعرضة للتحلل لأن ليس لها أساس فى وجودها بذاتها . فالخليقة تستمد وجودها وكيانها من خلال إشتراكها فى الكلمة الذى أيضا يمنحها الإستنارة والمعرفة .
“الله الكلمة، الذى هو قوة وحكمة الله الإلهية، هو مصدر وجود العالم وحافظه. فمن صلاح الله أنه لم يترك الخليقة مستعبدة لطبيعتها ولذلك فقد نزل الله الكلمة وفاض بقوته على الكون كله وأنار كل الأشياء الظاهرة والخفيه، وأعطى الحياة والبقاء لكل المخلوقات. فهو مصدر النظام والوحدة والتجانس والتناغم فى العالم”.
“الكلمة هو إستعلان الله”. لأنه قد تغلل فى كل شئ وكسى كل مكان فى السماء وفى الأرض وما تحت الأرض حتى فى عمق الهاوية، وقد بلغ كل الأعماق والإتجاهات. كل شئ قد امتلأ بمعرفة الله . فختم الله الكلمة وبصمته قد وضعت على كل الخليقة وكل إنسان، وكان هذا سر حفظ الخليقة من الفساد والإنحلال”.
فالقديس أثناسيوس يرى أن أصل وجود الإنسان مبنى على وجود الكلمة فى داخله. فهو يريد أن يؤكد إزدواجية الخليقة التى لديها طبيعتها المخلوقة المتقلبة، وأيضا تحمل ختم الكلمة الواقى والحافظ لها الذى به أُوجدت. إذا الخليقة لديها طبيعتها المخلوقة والنعمة معاً. فالابن لكونه قائم فى الآب و شاخص فيه قد خلق الكون وأوجد النظام فيه، وكقوة الله وحكمته حفظ وجود الخليقة. فالابن هو صورة الآب غير المنظورة وغير المتغيرة.
لقد شدد أثناسيوس أثناء مجادلته مع الهرطقة الأريوسية، وأكد فى تعليمه عن الكلمة، على العلاقة الوثيقة بين عملية الخلق التى قام بها الله الكلمة و بين تجسده وعملية الخلاص. ففى الكتاب المقدس قد لُقب الابن بأنه بكر كل الخليقة لأن الكلمة، وهو الذى خلق الخليقة من البدء، قد نزل إلى الخليقة لكى يعطيها حياة ووجود. ورجوعا ًإلى تعليم أثناسيوس عن الطبيعة المزدوجة للخليقة فهو يفرق بين حقيقتين منطقتين وليسا متزامنتين فى عملية خلق الإنسان وهما : خلق الطبيعة الإنسانية من عدم، ومسحتها ببصمة صورة الله. فالله من خلال نعمته أصبح أب لكل من خلقه، والخليقة من خلال إشتراكها فى الابن أصبحت متبنية بالآب. ففى لحظة خلق الإنسان من عدم قد مسح بنفخة الروح القدس. فنفخة الحياة التى نفخها الله فى أدم لم تكن روح بل كانت نسمة الروح القدس المحيية، وقد أصبح الإنسان الأول إنسان روحى لأن الروح القدس أصبح بداخله. فخلق الله للإنسان على صورته قد مكن الإنسان من التأمل والشخوص فى الإلهيات والدخول إلى نعمة الحياة الحقيقية.
سقوط الإالسنسان
بما إن النعمة وعطية الروح القدس قد مُنحت للإنسان الأول من الخارج، فكان من الممكن أن يفقدها بسهولة، وبالفعل قد فقدها عند سقوطه. ” فالإنسان قد تحول عن التأمل فى الله، وتوقف عن شوقه وسعيه له، وأصبح منغلقلاًً فى ذاته وبالتالى أصبح متجهاً ومنحصراً فى محبته لذاته، ومن هنا بدأ إشتعاله بالشهوات والأهواء وحياته إنحدرت وتفسخت. وولع الإنسان بمحبته للذات وتحولت النفس من الروحانيات الى الجسدانيات، ونسى الإنسان أنه قد خلق على صورة الله الصالح”. وإتجهت نفس الإنسان بفكرها الى الفانيات والعدم وأعطته كيان، وبذلك أصبحت هى مبدعة الشر. لأن الشر هو اللا شئ، والعدم ليس له أصل فى الله، وجٌلب الشر من الحكمة الإنسانية. وكم الشهوات التى تزاحمت داخل نفس الإنسان حجبت رؤية الإنسان لصورة الله فى داخله، والتى كان ينبغى ومن الضرورى أن يراها. وبالتالى لم تعد نفس الإنسان قادرة ان ترى أو تتامل فى الله، الذى على صورته قد خُلقت، وأعطت فكرها الى أشياء كثيرة وهمية، وأصبحت لاترى إلا المحسوسات. وكان هذا بمثابة تسمم وتشتيت للعقل. وبسبب كسر الوصية حُرم الإنسان الأول من الإستنارة العقلية، ورجع إلى طبيعته وأصبح عبد لقانون الفساد وتحول عقله للتفاهات وتلوث بالشهوات، وتاهت البشرية فى ظلمة الوثنية.
النعمة وتجديد الخليقة
بسقوط الإنسان حُرمت الطبيعة من النعمة. ” ولذلك قد أصبح من الضرورى إعادة الوحدة، وتجديد الخليقة التى قد خلقت على صورة الله . وكان لابد من إستعادة نعمة الوجود على صورة الله التى فقدت”. فالله الكلمة كونه الخالق أخذ على عاتقة مهمة تجديد الخليقة . وقد تم هذا بالفعل” الكلمة صار جسداً ” . الكلمة أخذ طبيعة إنسانية ومع كونها مشابهة لطبيعتنا إلا أنها كانت مستنيرة وخالية من ضعفاتنا. وهذا أشبه بقطعة من القش مغطاة بمادة الاسبستوس غير القابلة للإشتعال، فهى قد أصبحت لا تخشى النار لإنها محمية بداخل غطاء وغشاء واقى غير قابل للإشتعال. فعلى نفس المثل والصورة فإن الطبيعة الإنسانية، وعلى الرغم من طبيعتها الفاسدة، قد دعيت للخلود. فالإشتراك غير المباشر فى الكلمة منذ البدء لم يكن كافياً لحفظ الخليقة من الفساد.” وكان من الممكن للتوبة والغفران أن يصلحوا لو لم يكن التعدى والعصيان قد تبعه ولاحقه الفساد. لأن التوبة يمكن أن توقف الخطية فقط ولكنها غير قادرة على تغيير حالة الإنسان التى فسدت. فالموت قد ملك على الإنسان وأصبح له سلطان عليه”.
الله طبعا كلى القدرة وكان من الممكن بكلمة أمر منه أن يطرح الموت خارجاً، ولكن هذا لا يؤدى الى شفاء الإنسان الذى إعتاد على العصيان ولا يتفق مع العدل الإلهى . الغفران الكامل قد يبين مدى قوة وقدرة الله مانحه . ولكن الإنسان يظل مثل آدم ومرة أخرى يمنح النعمة من الخارج فقط، وفى هذه الحالة يكون من المتوقع حدوث سقوطه مرة أخرى. ولكن من خلال تجسد الكلمة، النعمة قد أُعطيت للإنسان بطريقة حتمية وأصبحت متغللة ودائما بداخله. لقد إتخذ الكلمة جسداًً، لكى يُلبس جسد الإنسان حياة جديدة، ومن أجل حفظه من الفساد، ليس من الخارج ولكن لكى يوصل ويوحد الجسد فعليا بالحياة. وبهذه الطريقة، الجسد نفسه لبس الله الكلمة المحى ولم يعد يخاف الموت أو الفساد لأنه قد تسربل بالحياة وقد أبطل الفساد. الكلمة كان فى العالم منذ البدء وكأن العالم جسد كبير قد منحه الكلمة الحياة والنظام، وكان من الممكن للكلمة أن يظهر فى جسد إنسان لكى يهبه الحياة. ولكن صورة الكلمة الموجودة فى الانسان حينما فسدت، كان من اللازم إستعادتها وقد تم هذا من خلال تجسد الكلمة.