“وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ، تَبِعَهُ أَعْمَيَانِ يَصْرَخَانِ ويقولان: “رحمنا يَا ابْنَ دَاوُد”
وَلَمّا جَاءَ إِلَى الْبَيْتِ تَقَدّمَ إِلَيْهِ الأَعْمَيَانِ، فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «أَتُؤْمِنَانِ أَنّي أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ هذَا؟» قَالاَ لَهُ: “نَعَمْ، يَا سَيّدُ!“. حِينَئِذٍ لَمَسَ أَعْيُنَهُمَا قَائِلًا: “بِحَسَب إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا”. فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا“.
من أهم معجزات المسيح وأعمقها شفاؤه لعميان كثيرين، فقد أراد المسيح من خلال كرازته بملكوت الله أن يستعلن ما يليق بهذا الملكوت، واسترداد كل مسلوب، وإصلاح ما أفسدته الخطية بالسقوط، وتحرير أُولئك الذين تملكت عليهم الأرواح الشريرة، «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيّةِ” (لو4: 18)
فمنذ أن دخل الموت إلى العالم وانفتحت عيون الإنسان على الخطية، والرب يسوع يُريد أن يَسترجع بصرنا الروحي، ويعمي عيوننا عن الخطية. «لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هذَا الْعَالَمِ، حَتّى يُبْصِرَ الّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الّذِينَ يُبْصِرُونَ». (يو 9: 39).
لقد كانت هذه الآيات والمعجزات بمثابة البشارة بالملكوت “وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي الشّعْب”(مت4: 23)، ففي وسط هذا العالم الساقط يعيش الإنسان متغرباً عن الله، ويبحث عمن يُعينه ويخلصه، يبحث عن شخص يرأف بحاله، أو يضع نفسه مكانه، فيشعر بمعاناته ويحس بألمه، يصرخ مُلتمسا من يَرحمه. “ارحمنا يا ابن داود”(متى9: 27). هذا هو المفهوم الحقيقي للرحمة. وهذه هي محبة القريب، الوصية العظمى الثانية، والتي هي انعكاس مباشر للوصية الأولى: “تحب الرب إلهك”. يسوع المسيح ابن الله الكلمة المتجسد هو الله الظاهر في الجسد، أي أن الله وضع نفسه مكان البشر لكي يُجرب مثلهم، ويقبل آلامهم في ذاته.
من هنا نعرف أن هذين الأعميين يعرفان جيداً طريق النجاة، إذ اتجهوا مباشرة لطلب الرحمة، وفي لجاجة صاروا يلاحقون المسيح على الطريق وحتى البيت “أرحمنا”.
وماذا بعد؟ ما الذي يتوجب عليهما فعله؟ عند هذه النقطة يبادر المسيح ممسكاً بزمام الأحداث المتوالية، إذ يوجههما يسوع إلى طريق استقبال النعمة الإلهية: “أتؤمنان؟”، هل تضعا مصيركما وكيانكما بين يدىّ؟
فالإيمــــان، في جانب منه، هو ائتمان الله على حياتنا. وهكذا كان ردهم: “نعم يا سيد“، هي استجابة لمشيئة الله، هي التسليم تحت سلطان الله، هي انفتاح باب الإرادة البشرية للعمل الإلهي، هي إنسان عامل مع الله.
“لمس أعينهما”: المسيح هو نور العالم “هو النور الذي ينير كل إنسان”، وعندما يمس نور الحياة العيون التي ماتت، يُحييها، وحينئذ تنفتح العيون، “فأنفتحت أعينهما”، وهذه هي الإستنارة، “بنورك نرى نوراً” (مز 36: 9)، وهي الولادة الجديدة “لأن عندك ينبوع الحياة” (مز36: 9). بالضبط، هذا هو ما يتم في المعمودية، إذ يتحد الإنسان بالمسيح الذى هو ينبوع الحياة، فينتقل الإنسان ويعبر من الظلمة للنور، من الموت للحياة، وينال الإستنارة. أو بمعنى آخر تنفتح عيون قلبه بعد أن كان أعمى. الآن صار للإنسان عيوناً يرى بها الله الذي لم يَكن يَعرفه من قبل، صار له عيوناً يرى بها حقيقة نفسه وداخله، ويرى بها العالم والآخرين من حوله، وُهب للإنسان أن يميز بين النور والظلمة، بين الخير والشر.
الأعميان اللذان صارا بَصيران “خرجا وأشاعاه في تلك الأرض كلها”. لا يمكن لإنسان أبصر المسيح ورأى الحياة أن يسكت، بل ينطلق شاهداً. أنه عمل الامتنان والفرح الذي لا ينطق به. إن إشفاق الله على الواحد يجعله يشفق على الآخرين أيضاً، فيذهب ويخبر عن المسيح لكل من يقابله، معلناً عن الرحمة التي اقتبلها من يدىّ يسوع.
وأخيراً إن كنا نطلب هذه الرؤية، وتلك العيون، فلنطلب الرحمة مِن مَن يمتلكها. ونطلب بلجاجة ليلاً ونهاراً، لكي تلين قلوبنا المتحجرة التي لا تريد أن تعترف بحالها بسبب الكبرياء، ونصرخ “يارب يسوع المسيح إرحمني”، هذه هي صلاة يسوع، نجد فيها حياة التقوى كاملة، معترفين بخطايانا ومقرين بها، كارهين إياها.
فلنجعل شعاع نور المسيح يلمس عيوننا. يسوع هو شمس البر، والشفاء في أجنحتها (أشعتها)، وهو قادر أن يفتح عيوننا الروحية عندما نتلامس معه. نحن نتلامس مع المسيح في الصلاة، وقراءة الكلمة المقدسة، وفى الأسرار الكنسية. إذ في كل هذا نصير في مجال الروح القدس، الذي يهب لنا الحياة الإلهية.
وشيئاً فشيئاً يتسلل النور إلى داخلنا ويتغير كياننا، فنمتلك بصيرة جديدة محفوظة بروح الله، بها نسير في طريق الحياة الأبدية دون أن نضل يميناً أو يساراً.
د. شريف مـــراد