يونيو 26, 2022 شيطان الظهيرة

شيطان الظهيرة

مقدمة

تشمل صلاة الساعة السادسة من صلوات الأجبية المقدسة مجموعة من المزامير المنتقاة والقطع، والتي تحيي ذكرى صلب الرب يسوع المسيح في الساعة السادسة من النهار أي الموافقة للساعة الثانية عشر ظهراً. من بين هذه المزامير نجد المزمور التسعون (الواحد وتسعون بالكتاب المقدس) حاملا لبعض النبوات المسيانية التي تؤكد على العناية والحماية الإلهية للمسيا في حربه ضد الأشرار وفي أي ضيق أو خطر يصادفه. يعدد المرنم مخاطر متنوعة، ويبرز تنوعها بحسب توقيت حدوثها خلال اليوم: ” خوف الليل، ولا من سهم يطير في النهار. ولا من أمر يسلك في الظلمة، ولا من سقطة وشيطان الظهيرة”. ويكون محور البحث هنا هو مسمى “شيطان الظهيرة” الذي تمتاز به الترجمة السبعينية للكتاب المقدس عن بعض الترجمات الأخرى.

الدلالة الروحية

          أي كان السياق التاريخي والثقافي فيما يختص بهذه المخاطر المتعلقة بتوقيتات منوعة، فإن الدلالة الروحية هنا هي الإشارة لأشكال مختلفة من الحرب الروحية التي يقودها أجناد الشر الروحية، كل في تخصصه. هذا ما يؤكده الأب سيرينيوس في كلماته التالية: “وبنفس الطريقة يعلمنا الكتاب أنه توجد شياطين الليل والنهار والظهيرة (مز91: 5، 6). ولقد لقبت الشياطين بأسماء كثيرة في الكتاب المقدس … هذه الأسماء لم ترد اعتباطًا، بل تشير إلى شراستها وجنونها تحت أسماء هذه الحيوانات المفترسة المتباينة الضرر والخطورة بالنسبة لنا (إذ لُقبت أسودًا وأفاعٍ)”.[1]

          ويبرز هنا التساؤل حول السبب الكامن وراء اختلاف شكل الحرب بحسب كل توقيت، إذا ما تم تفسير هذه التوقيتات في إطار الدورة الزمنية اليومية. في اعتقادي الشخصي أن السبب هو التكوين البشري القائم على وحدة نفسجسمية، أي وحدة النفس والجسد، المؤثرين في بعضهما البعض تأثيرا مباشراً. على الجانب الجسدي نجد على التوازي ارتباطاً وثيقاً بين حالة الجسد ووظائفه الحيوية والدورة الزمنية اليومية. ويظهر ذلك بالأساس في معدل افراز مجموعة من الهرمونات التي يفرزها الجسم – مثل الميلاتونين، الأدرينالين، الكورتيزول، والسريتونين- والتي تعمل في سيمفونية منتظمة للتحكم في دورة النوم والاستيقاظ وبالتالي في حيوية الجسم ومعدل الأيض. لكن كل ذلك يرافقه تأثيرات نفسية وشعورية غير منظورة. إجمالا فإن ذلك يجعل هذه الوحدة النفسجسمية في أحوال متباينة على مدار اليوم، مما يكافئه تعاطياً متنوعا من قبل قوات الظلمة في حروبها على الإنسان.

إلا أنه هناك رؤية أخرى تجد هذه التوقيتات عائدة على مراحل عمر الإنسان. فتكون الظهيرة، مثالاً، هي منتصف عمر الإنسان.

شيطان الظهيرة في التعاليم النسكية

ينقل لنا القديس يوحنا كاسيان خبرته حول هذا الموضوع والتي استقاها من جوالاته في البراري المصرية كالتالي: “أما سادس صراع لنا فهو موجه ضد ما يسميه اليونانيون بالضجر، أو ما يصح لنا أن ندعوه بالملل أو تعب القلب، وهو وثيق الصلة بالاكتئاب. يلاحق النساك بوجه خاص، وهو عدو خطير كثير التردد على سكان الصحراء. لا يزعج الراهب عادة إلا في الساعة السادسة، مثل الحُمَّى التي يقع المرء فريسة لنوباتها، وما تسببه من ارتفاع شديد في حرارة المريض، خلال ساعات معينة منتظمة. وأخيرًا فثمة شيوخ يُعلنون أن هذه الروح هي “شيطان الظهيرة” الذي ورد ذكره في المزمور التسعين”.[2] ويلاحظ هنا الجهد المبذول لتوصيف أبعاد عمل “هذه الروح”، وارتباط عملها بالساعة السادسة.

“تقف الشياطين التي تثير النفس بإلحاح وتزعج النفس حتى الموت، أما الشياطين التي تثير حركة شهوة الجسد فتتقهقر بأكثر سهولة من الأولى. أضف إلى هذا أن بعض الشياطين تشبه الشمس المشرقة أو التي تغرب، تلمس جانبًا واحدًا من النفس أو آخر، أما “شيطان الظهيرة” فقد اعتاد أن يغلف النفس كلها ويُغرق الذهن. لهذا السبب فإن العزلة (الوحدة) مع غلبة الشهوات أمر حلو، إذ لا يعود يبقى منها إلا مجرد ذكريات، أما الحرب (الروحية) فلا تكون بعد شديدة بقدر ما نفكر فيها مليًا”.[3] يبرز هنا شيطان الظهير كأخطر أشكال الحرب الروحية، إذ أنه يجتاح كيان الإنسان بالكامل، وليس كسائر الأرواح الشريرة الأخرى التي تحارب جانب واحد فقط من الكيان البشري.

أما القديس أوغسطينوس فيستعرض هنا حيل وطرق الأرواح الشريرة في حربها على الإنسان:

“إنّه عدو ماكر ومخادع، لا يمكننا -بدون نورك- أن نُدرك طرقه الملتوية، ونعرف أشكال وجهه المتعددة. فتارة نراه ههنا، وأخرى هناك!

تارة يظهر كحَمَلٍ، وأخرى كذئبٍ!

تارة يظهر كنورٍ، وأخرى كظلامٍ!

إنّه يعرف كيف يغيّر شكله، ويُشكّل خططه، حسب ظروف الإنسان وأوقاته، فلكي يخدع المتعبين يحزن معهم!

ولكي يجذب القلوب المبتهجة يلوّث أجواء أفراحهم!

ولكي يقتل الحارّين بالروح يظهر لهم في شكل ملاك نور!

ولكي ينزع أسلحة الأقوياء روحيًا يظهر في شكل حَمَل!

ولكي يفترس ذوي الحياء يتحوّل إلى ذئبٍ!

وفي كل خداعاته، يُخيف البعض بمخاوف ليليّة، والآخرين بسهام تطير في النهار. هؤلاء ينزلق بهم إلى الشر في الظلمة، والآخرين يحاربهم علانيّة في وقت الظهيرة (مز91)!

فمن يقدر أن يميّز طرق مكره المختلفة؟!

من يقدر أن يُحصِى أنيابه المرعبة؟!

سهامه يخْفيها في جعبته، وحيَله يخبئها إلى اللحظة المناسبة للسقوط!

إلهي… أنت رجائي… بدون نورك – الذي به نرى كل شيءٍ – يصعب علينا أن نكتشف مناورات الشيطان وحيله.”

 

شيطان الظهيرة والسقوط

إن ترتيب الكنيسة في وضعها لهذا المزمور ضمن مزامير صلاة الساعة السادسة يكشف عن المدلول الروحي الذي يحمله المزمور التسعون. فنجد هذه الدلالات التالية: “يا من في اليوم السادس وفي الساعة السادسة سمرت على الصليب من أجل الخطية التي تجرأ عليها أبونا آدم في الفردوس” وأيضاً ” يا يسوع المسيح إلهنا الذي سمرتَ على الصليب في الساعة السادسة، وقتلت الخطية بالخشبة، وأحييت الميت بموتك، الذي هو الإنسان الذي خلقته بيديك، الذي مات بالخطية”.[4] فمخلصنا قد صلب في اليوم السادس (الجمعة) وفي الساعة السادسة (الظهيرة)، أي في ذات توقيت سقوط آدم. ليقدم لنا هذه المقابلة بينه، بصفته “آدم الثاني”، وبين “آدم الأول”. طاعة في مقابل عصيان، قيام من السقطة مقابل سقوط، إلخ…

وليس عجيبا أن يربط المزمور بين السقوط و”شيطان الظهيرة”، فالمزمور يتكلم بوضوح عن الحماية من “سقطة وشيطان الظهيرة”. لقد جاء الرب يسوع المسيح ليقيم آدم من سقطته بواسطة “الشجرة” أي الصليب، بعدما سقط آدم، من دعوته الإلهية، أيضا بالشجرة. أما إبليس الذي يعي كل هذا الحق الروحي، وإن كان “لَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ” (يو8: 44)، وهو متوقع لما هو آت، حاول أن يسقط المسيح ذاته من دعوته لتخليص العالم. فاقتباس إبليس لكلمات هذا المزمور لم يكن اعتباطا، خلال تجربته للمسيح في البرية. لقد حاول الشرير أن يدفع المسيح للسقوط بأن أخذه لأقصى ارتفاع ممكن، أي جناح الهيكل، وجعل يقنعه بإلقاء نفسه لأسفل. فأخذ المحتال يقدم مشورته المميتة مغلفة بالطمأنينة مستعيناً بكلمات هذا المزمور: “إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: “أَنّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ” (مت 4: 6).

في الفقرة التالية يقدم القديس إفاجريوس البنطي شرحا مستفيضا لكيفية عمل “شيطان الظهيرة” على اسقاط الراهب من دعوة الله لحياته:

“شيطان الضجر، الذي يقال له أيضًا “شيطان الظهيرة” (مز 6:91)، هو أخطر الشياطين. إذ يهجم على الراهب حوالي الساعة الرابعة من النهار (10 صباحًا)، ويجعل النفس تدور كما في دوامة حتى الساعة الثامنة من النهار (الساعة 2 بعد الظهر). يبتدئ أولًا بأن يجعل الإنسان يترقب الشمس وهو في غمٍ وضيق صدر، فيراها تتحرك ببطءٍ، كأنها لا تتحرك قط، ويبدو كأن ساعات النهار قد صارت خمسين ساعة. وبعدما يتراكم عليه الضجر، يحثه الشيطان لكي ينظر من نافذته، أو يخرج من قلايته يترقب الشمس، وكيف أن الوقت لا يزال الساعة التاسعة. ثم يجعله يحملق هنا وهناك لعله يجد أحد الإخوة القريبين منه خارج (قلايته)، ويثير في داخله الغيظ من المكان الذي يقطن فيه، ومن نمط حياته وعمله، ويضيف إليه هذا الفكر أنه لا توجد محبة بين الإخوة، ولا يوجد هنا من يعزيه. وإذا حدث في هذه الأيام أن أساء إليه أحد، فإن الشيطان يذكره بذلك لكي يزيد من حنقه وغيظه. بعد ذلك يثير فيه الاشتياق للسكنى في أماكن أخرى، حيث يكون من السهل أن يمارس عملًا آخر أكثر نفعًا لسد حاجاته وأقل قسوة. ويضيف إليه الشيطان أن إرضاء الإنسان لله لا يتوقف على مكانٍ معينٍ، وأنه يمكننا أن نعبد الله في كل مكان. ثم يربط هذه الأفكار بأفكارٍ أخرى، كأن يذكره بأقاربه والحياة الهادئة الهنيئة الأولى، ثم يتنبأ له بحياة طويلة مملوءة بمصاعب الجهاد النسكي. وهكذا يستخدم كل حيلة وحيلة لكي يخدع الراهب فيجعله ينهي هذه الحياة ويترك قلايته. هذا الشيطان يلحق به شيطان آخر ولكن ليس في الحال. أما إذا قاوم الراهب هذه الحروب وانتصر، تستقر النفس في سلام وتمتلئ بفرحٍ لا ينطق به”.[5]

مبدأ العمل الشيطاني الأساسي هنا هو جعل الراهب يضيق بحياته الحالية واقتراح حياة بديلة ليس بها شبهة شر، بل يزينها بكونها تحقق ذات الغرض.

 

الخاتمة

لقد أُطلق على شيطان الظهيرة في الكنيسة الكاثوليكية مسمى “خطية الكسل” (Sloth)، وهي أحد السبع خطايا المميتة. لكن يبدو أن هذا المسمى قاصر في أن يفي بأبعاد عمل هذه الروح الشريرة. والتي تسمى في اليونانية بالأكيديا (Acedia). من خلال كل ما سبق من الممكن أن نقوم بمحاولة لجمع بعض التوصيفات التي قد تساعدنا في فهم ماهية هذه الروح وطريقة عملها من خلال ملاحظة الأعراض التالية:

  • اللامبالاة
  • تيار أفكار يصعب إيقافه (Train of thought)
  • عدم القدرة على متابعة المهام المنوط اتمامها (خاصة التي تستلزم الكثير من الوقت) من قبل الإنسان
  • الملل
  • اكتئاب
  • تثقل القلب
  • عدم القدرة على التركيز لوقت طويل
  • عدم الرضى بما قد تحقق
  • تطلع للحظة الآتية يحجب رؤية اللحظة الآنية

هذه الأعراض قد تظهر في نواحي الحياة الروحية المختلفة مثل: الصلاة، التأمل، والقراءة. والنواحي الأخرى العملية مثل أداء العمل بغرض كسب المعيشة أو المهام المنزلية، وأيضا في النواحي العلاقاتية مع الأقارب والمجتمع.

إجمالاً، فإن الإنسان كنتيجة لكل ذلك يفقد الغاية من اللحظات الراهنة التي يعيشها، فلا يتحقق فيها ما يدعوه الله له. بل يكون دائم التطلع لما هو آت، فلربما يكون أفضل من الوضع الحالي، هكذا يفكر الإنسان في عقله الباطن. إنه ذات ما يتم برمجة الأجيال المعاصرة عليه. ما يسمى بمتلازمة “Slot Machine”- وهي أحد أنواع آلات القمار، يقوم الشخص بسحب الذراع وينتظر إن كان الناتج من دوران التروس العشوائي ينتج توليفة من الأرقام أو الصور تجعله يكسب. هو ذات التأثير الواقع على أدمغة البشر من تقليب (Scrolling) صفحات السوشيال ميديا، الداعية الإنسان لقلب الصفحة الحالية تطلعا لمحتوى أفضل في الصفحة التالية. وهكذا إلى ما لا نهاية، حتى تضيع ساعة تلو الأخرى وربما الحياة كلها، فالصفحة التالية قد تكون أكثر إشباعاً.

وإذا ما فُهم توقيت الظهيرة بكونه منتصف حياة الإنسان، فذلك يعني أن الشخص يجد نوع من عدم الرضا بما حققه على مدار سني حياته الماضية. فيعاني مما يسمى بأزمة منتصف العمر.

أخيراً، فإن “شيطان الظهيرة” هو عدو دعوة الله لحياة الإنسان- علماً أنه لا يوجد إنسان على هذه الأرض بدون دعوة إلهية. وإن كان لكل دعوة تميزها الخاص. إنه شيطان السقوط، “المقاوم” لتحقق “الغاية” (Telos). قد يقول البعض بأن هذه الأمور تخص الحياة الرهبانية فقط. ولكن ألا يجب أن ننتبه أن الطبيعة البشرية واحدة، وأن دعوة الحياة المسيحية في مجملها هي واحدة، سواء تحققت من خلال الرهبنة أو الحياة العلمانية. أيضا فالشيطان الذي يحارب الراهب هو ذاته من يحارب العلماني. يبقى أن شيطان الظهيرة لن يحارب الإنسان الذي لم يستلم دعوة إلهية لحياته.

لكن الشكر لله الذي أرسل ابنه في صورة إنسان والذي صُلب ساحقاً شيطان الظهيرة. إن غلبة المسيح قد حققت ما فشل به الإنسان الأول، وهي متاحة لكل شخص بالاتحاد بالمسيح الغالب. أيضاً نشكر الله لأنه يكشف استراتيجيات العدو، بمعونة الروح القدس، وخبرات القديسين الذين قلدونا هذا التعليم الروحي “لِئَلاَّ يَطْمَعَ فِينَا الشّيْطَانُ، لأَنّنَا لاَ نَجْهَلُ أَفْكَارَهُ” (2كو 2: 11).

[1] Cassian، Conferences 7:32.

[2] De institutis caenoborum, Book 10:1.

[3] القديس مار أوغريس البنطي: توجيهات إلى أناتوليس Anatolius عن “الحياة العاملة”، 25.

[4] صلوات القطع، صلاة الساعة السادسة، الأجبية المقدسة.

[5] القديس مار أوغريس البنطي: إلى أناتوليس Anatolius عن “الأفكار الثمانية”، 7.

                                                                                                                                                    د. شريف مــــراد

اترك رد