يونيو 12, 2021 الرب المحيـــي

الرب المحيـــي

في البدء

الروح القدس هو الأقنوم الثالث من الثالوث القدوس، وهو ينبثق من الآب ويحل في الابن الكلمة. هذه هي العلاقة الأزلية بين الثالوث القدوس. فالآب والابن والروح القدس لهم حياة واحدة قائمة على شركة المحبة، متجلية في حلول واحتواء متبادل لكل منهم للأخر. لذلك تقدم الكنيسة العبادة والإكرام اللائق بالروح القدس في مساواة مع الآب والابن. وبالتالي يعبد الثالوث القدوس كإله واحد. فالجوهر الإلهي والألوهة واحدة.

والروح القدس كما هو ظاهر من اسمه “الروح”، هو أولا: مبهم لا يدرك في شخصه بل يمكن للإنسان أن يلتمس أثره وعمله في الخليقة ولا سيما في الإنسان نفسه. وذلك أوضحه المسيح لنقوديموس قائلا ” اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا لَكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هَكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ” (يو3: 8). ثانيا: فإنه كروح هو ناقل ما بداخل الله الآب الذي ينبثق منه، إذ أنه روح الله. هكذا فهم اليهود عمل الروح داخل الإنسان، أنه ما ينقل مكنونات صدره. مع الفارق أن روح الإنسان هي أحد أجزاء تكوينه، أما روح الله فهو شخص حقيقي لا يحسب على أنه جزء من كل، بل له حياة في ذاته، وهو عاقل ذو إرادة حرة. وبخصوص دور الروح القدس، فهو شريك في كل عمل إلهي، من خلقة، وخلاص، ووحي، وتجديد، فالله الآب يعمل بابنه وفي الروح القدس. لكن من أهم ما يميز دوره أيضا، هو إختصاصه بنقل الحياة والمحبة الإلهية الأبوية.

في البدء الزمني

    “نعم نؤمن بالروح القدس، الرب المحيي…” هكذا تصلي الكنيسة في قانون الإيمان. فروح الله هو واهب الحياة. فأولا هو واهب الحياة المخلوقة في الزمن. “فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السّمَاوَاتِ وَالارْضَ. وَكَانَتِ الارْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ” (تك1: 1، 2). ففي بداية الخليقة نرى روح الله عامل كواهب للحياة والوجود للخليقة مثل رحم الأم الذي يحيط بالجنين في حنان حتى يكتمل تكوينه. “تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ، وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ” (مز 104: 30)، هكذا خلق الله الإنسان بروحه ونفخة فيه.

لكن يعطى أيضا حياة أخرى أعظم من هذه الحياة المخلوقة بما لا يقاس. وهي الحياة الأبدية، أي حياة الله. فروح الله، الرب المحيي، هو واهب الحياة الإلهية للإنسان. فإن ترنمنا طوال حياتنا طلباً للحياة الأبدية دون أن نعي ونتلامس مع روح الله فمن المحال أن ندرك حياة الله.

    لقد جاء ابن الله في تجسده إلى أرضنا متحداً بطبيعتنا، لكي ما يؤهلها لاستقبال الحياة الأبدية، فكيف يتحقق ذلك؟ لقد ثابر المسيح في إرساليته كارزاً بمجيء ملكوت الله، “وَفِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ الْعَظِيمِ مِنَ الْعِيدِ وَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَى قِائِلًا: إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ. مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ” (يو 7: 37، 38). هنا كان المسيح يتكلم عن الروح القدس كما يوضح لنا البشير يوحنا. فالإنسان عندما يعطش يشرب، لكي يستمر جسده في الحياة الجسدية، وبدون الماء يموت الإنسان جسدياً. هكذا أيضا كل إنسان متعطش للحياة الأبدية يبحث عن ماء الحياة، فيمنحه الله سكيب من روحه القدوس. والإنسان الذي يقبل الروح لا يعطش أبداً، بل إن روح الله يسكن فيه فيجري من داخله فيض الحياة الأبدية حتى لمن حوله. بنفس المفهوم تحدث المسيح مع السامرية موضحاً: “لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيّةَ اللّهِ وَمَنْ هُوَ الّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّاً” (يو4: 10). ثم يؤكد أن ماء العالم وملذاته ونمط حياته لا يروي قائلاً: “كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلَكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ بَلِ الْمَاءُ الّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيّةٍ” (يو4: 13، 14). فروح الله قادر أن يمنحنا ينبوع متجدد من الحياة لا ينضب إلى الأبد. “اَلرّوحُ هُوَ الّذِي يُحْيِي. أَمّا الْجَسَدُ فلاَ يُفِيدُ شَيْئاً” (يو6: 63). وهنا المسيح يكشف عن الحقيقة التي قد تغيب عنا أحياناً، وهي أن حياة الجسد لا تحسب حياة حقيقية لأنها مؤقتة محتومة بنهاية، بل الروح القدس هو فقط من يمنح الحياة الحقيقية، أي حياة الله. لقد وعد الله البشرية بهذه العطية الفائقة، أن نحيا نحن المخلوقين بحياة الخالق، قائلا “أَنَا أُعْطِي الْعَطْشَانَ مِنْ يَنْبُوعِ مَاءِ الْحَيَاةِ مَجَّاناً” (رؤ21: 6). فهل نعطش؟ هنا لم تذكر كلمة الله أي مؤهل لإستقبال العطية سوى العطش. إذ يقول إنه يمنحها “مجاناً”. كلنا نفرح من أجل أن العطية مجانية، ولكننا نحزن بسبب قساوة القلب الصخري الذي اعتاد الجفاف، ولا يصرخ في عطشه طالباً إمتلاك ينبوع حياة في بطنه.

الآن

    لماذا يجد الإنسان صعوبة في طلب الروح القدس؟ هل لأن ذلك غير معتاد أو متعارف عليه؟ إن كنيستنا تتفرد بكونها تخصص صلوات موجهة للروح القدس. فنحن نصلي يومياً في صلاة الساعة الثالثة من الأجبية المقدسة قائلين: “روحك القدوس يا رب الذي أرسلته على تلاميذك القديسين ورسلك المكرمين في الساعة الثالثة، هذا لا تنزعه منا أيها الصالح، لكن جدده في أحشائنا” و”أيها الرب الذي أرسلتَ روح قدسك على تلاميذك القديسين ورسلك المكرمين في الساعة الثالثة، هذا لا تنزعه منا أيها الصالح. لكن نسألك أن تجدده في أحشائنا، يا ربنا يسوع المسيح ابن الله الكلمة، روحًا مُستقيمًا ومحييّا، روح النبوءة والعفة، روح القداسة والعدالة والسلطة…” وأيضاً “أيها الملك السمائي المُعَزّي، روح الحق، الحاضر في كل مكان والمالئ الكل، كنز الصالحات، ومعطى الحياة، هلم تفضل وحل فينا، وطهرنا من كل دنس أيها الصالح، وخلص نفوسنا”. أما في كل الأسرار الكنسية فهناك قسم من الصلوات يدعى الإبيكليسيس أى الاستدعاء، وفيه تصلي الكنيسة طالبة حلول الروح القدس، والذي بدونه لا يتم السر ولا يكتمل عمل الله في الإنسان. من أين جاء هذا التغرب في حياتنا عن الروح القدس؟ لماذا نتحاشى ذكره؟ ولماذا قد يجهله البعض؟ لدرجة أنه يعتبره جماد وليس شخص. بالطبع تتعدد الأسباب و أهمها أولاً: إن روح الله خجول كما يدعوه ف. د. برونر. وهو لا يعمل لأجل ذاته، بل يوجه كل عمله نحو تمجيد المسيح “ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ” (يو 16: 14). ولا يكسب الإنسان بالإبهار الجسداني المستمد من بطل العالم، هكذا نتعلم من اختبار إيليا النبي، فالروح يعمل مثل نسمة صوتها “مُنْخَفِضٌ خَفِيفٌ” (1مل19: 12). ثانياً: فإن روح الله القدوس لا يحل في إناء متمسك بالنجاسة، لذلك فإن عدم التوبة تقف حائلا أمام قبولنا لهذه النعمة. فالخطية “تحزن الروح” (أف4: 30).

    فلنعطش إذاً طالبين ماء الحياة، مصلين في كل حين أن يستمر فيض هذا الينبوع داخلنا. فنروي مَن حولنا بكلمات وأفعال الحياة المنسكبة فينا. فحياة الله وحدها هي القادرة أن تميت فينا كل موت. فنتمتع بشركة الحياة الإلهية، وننضم إلى نمط حياة الثالوث القدوس. لأن الرب يقول ” لأَنّي أَسْكُبُ مَاءً عَلَى الْعَطْشَانِ وَسُيُولاً عَلَى الْيَابِسَةِ. أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى نَسْلِكَ وَبَرَكَتِي عَلَى ذُرّيّتِكَ. فَيَنْبُتُونَ بَيْنَ الْعُشْبِ مِثْلَ الصّفْصَافِ عَلَى مَجَارِي الْمِيَاهِ” (إش44: 3، 4).

فالحياة الأبدية ليس بها سكون، بل هي ديناميكية، فهي رحلة من النمو المستمر. 

د.شريف مراد

اترك رد