يُعرّفنا إنجيل اليوم لأي سبب نصوم وما الهدف الأخير من الصوم. في بدء المسيحية، في زمن الاضطهاد، كتب إنسان مسيحيّ إلى الامبراطور الروماني يقول له: «لماذا تضطهدنا فنحن قوم نُحبّ بعضنا بعضًا حتّى إذا كان أحدنا في حاجة نمتنع عن الطعام ونعطي ثمن طعامنا الى هذا المحتاج».
الدينونة هكذا ابتدأ الصوم صدقةً للمحتاجين، تحسّسًا بحاجات الناس. الناس غاية الصيام، المحبة غايته. ثم نحن نتطهّر حتى نحبّ، حتّى نكون قادرين على الخدمة لأنّ الإنسان المرتبك بشهواته لا يستطيع أن يحبّ ولا أن يخدم. نحاول أن نتطهّر أربعين يومًا لنكون مستعدّين لقبول التفاتات الله الينا. المنشغل بخطاياه لا يستطيع أن يرى المسيح مطلاً عليه ولا يستطيع أن يشعر بوجود الآخرين.
الانقطاع عن اللحم ثم عن البياض وسيلة، ولكن الغاية هي الخدمة، التأهّب الروحيّ الداخليّ، التأهُّب الأخلاقيّ للخدمة. لذلك يقول لنا إنجيل اليوم ببساطة انّنا سنُدان على قدر المحبّة. فمَن أَحَبّ يكون فوق الدينونة، ومن لم يحبّ يُدان. ولذلك سمعنا الربّ يسوع في اليوم الأخير وهو على عرش المجد يتوجّه إلى الصدّيقين ويقول لهم: «كنت جائعًا فأطعمتموني وعريانًا فكسوتموني…». يسوع يوّحد نفسه مع الجائعين ومع العراة ومع الغرباء ومع السجناء ومع المرضى ومع المعذّبين.
يسوع صعد إلى السماء والعيون لا تراه لكن القلب يتحسّسه. ولكن حذار أن نكون عاطفيّين ليس الاّ. هناك محكّ واحد لمحبّته: «من أَحبّني يحفظ وصاياي» (يوحنا ١٤: ٣)، محكّ واحد: هل أَحببتَ الجائع الذي رأيته بقربك؟ هل أَحببتَ الغريب؟ هل كنتَ مع الذي أَحسّ انه وحيد ومعزول؟
في إنجيل اليوم ليس لنا صلة مع يسوع الاّ عن طريق المتألمّين، المشرّدين المشلوحين في الدنيا. وهناك شيء أدقّ، وهو كلامه للخطأة: «كنت جائعا فلم تطعموني». عذرهم انهم لم يفعلوا شيئًا سيّئًا. هذا عذرنا جميعًا: كيف نُدان إن لم نفعل شيئًا سيّئًا؟ يقول الناس إذا جلسوا بعضهم إلى بعض: أنا ماذا فعلت؟ لم أقتل، لم أكذب، لم أزن، لم أسرق، ويظنون انهم اذا لم يفعلوا السوء يرون الله. لكن الذي لم يقتل ولم يسرق ولم يزن لا يدخل السجن لكنه ليس مسيحيًا بعد. الوثنيون أيضًا لا يقتلون ولا يسرقون ولا يزنون… ان كنتَ لا تسرق ولا تقتل ولا تكذب ولا تزني فأنت مواطن صالح مطيع للقانون ولكنك لست مطيعًا للإنجيل. أنت لم تدخل بعد في إلفة المسيح، في عشرة الرب. أنت لم تذُق المسيح، ولكنّك تذوقه إذا أحببت الإخوة وإذا تحوّلت اليه بهذا الفعل المطهّر لذاتك.
المسيحيّة تبدأ بالعمل ولا تبدأ بعدم العمل أو بالامتناع عن الجرائم. المسيحية قلب بالدرجة الأولى، ولكنها قلب عامل، قلب يُدان. وبعد ان يعمل القلب يكون في بداية التطهير ونكون على طريق التوبة.
المهم أن لا نمزح مع الله. قضايانا معه جدّية تمامًا، ونحن تحت الدينونة لأنّنا تحت نظره المراقب كلّ شيء. نحن تحت رحمته، ولكنّنا تحت قضائه أيضًا. خطأٌ أن يتكلّم الناس دائمًا عن رحمة الله. هذا قد يعني التفريط. يجب ان يتكلّم الناس عن قضاء الله، عن عدله وعن صرامته. فإذا كانت قضايانا معه جدّية، فمعنى ذلك انّنا تحت عدله وقضائه وشدته. نحن تحت غضبه. فإذا أردنا ان يرفع الغضب ينبغي أن نحبّ. المحبّة فقط، محبّة القريب ترفع عنّا غضب الله. ليست الأمور بهذه السهولة التي نظن. ينبغي ان تكون علاقتنا مع الله كما قال هو «بخوفٍ ورِعدة»، وله هو أن يرحم.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
نشرة رعيتي
06 آذار 2016
مارس 4, 2016