لقد إعتمد الرب لكي يعطي لنا مسحًة أفضل من مسحة ملوك وأنبياء بني إسرائيل، فقد إنسكب عليه الروح القدس، أي على ناسوته. ونحن نقول: “عليه ” مؤكِّدين وحدة الأُقنوم وعدم إنفصال الطبيعتين؛ لأن ثبات الناسوت هو في إتحاده بابن الله الكلمة الأزلي المساوي للآب حسب الجوهر، والمساوي لنا حسب تدبير التجسُّد.
هكذا جمع الابن المتجسِّد في أقنومه المساواة الأزلية حسب اللاهوت، والمساواة التدبيرية حسب تجسُّده؛ لكي يكون رأس الخليقة الجديدة جاذبًا إياها إلى معرفة الآب ومعطيًا لها كل القوى والنِّعَم التي تسمح لها بالشركة الأبدية، وذلك بمجيء الروح القدس المعزي وحلوله على الابن المتجسِّد مُعلنًا لنا أن المسحة ليست قولاً ولا هي كلمة تُقال رغم صدق كل أقوال الله، ولكنها عطية ظاهرة تُعطى من الآب بإعلان إلهي: “هذا هو ابني الحبيب الذي فيه مسرتي” (راجع مت 17:3 ) مؤكِّدًا لنا أن كل ما سوف يعطيه الابن والروح هو مسرة واحدة للثالوث القدوس الواحد بالجوهر.
وعندما مُسِحَ بعد صعوده من الماء، فقد حدث أمران كلاهما فائق:
أولاً: رغم أن الابن واحد بالجوهر مع الآب والروح القدس، والروح القدس ليس غريبًا عنه، بل هو واحدٌ معه في ذات الجوهر، كما أن الناسوت هو الذي كوَّنه الروح القدس في أحشاء البتول والدة الإله، إلاَّ أن الناسوت المتحد بُأقنوم الابن، والابن نفسه “رئيس الحياة” (أع 15:3) كان محتاجًا لأن يُعلِن المسحة لنا، فقد مُسِحَ “لأجلنا”، و”لأجلنا” أعلنت فيه مسرة الآب بالإعلان السماوي، ومسرة الروح بالحلول عليه في شكل حمامة.
وعندما مُسِحَ صار “المسيح”، وصار لنا نحن – بسبب مسحته – ذلك الاسم : “الممسوحين”، والذي صار بعد ذلك في إنطاكية “المسيحيين” (أع 26:11)
كان الأنبياء يمسحون الملوك، مثلما مَسح صموئيل داوود ( 1صم 11:16 ـ 13) ولكن الآن الذي يمسحنا ليس نبيٌ، بل “رئيس الحياة”، وهو لا يمسحنا بأي مسحة، بل بمسحته من فوق من عند الآب مؤهلاً إيانا لأْن نكون شركاء في مسحته . وهي المسحة التي نالت الثبات الأبدي بواسطته؛ لأن الروح صار يسكن فيه، ويحل عليه – كمسيح – بسببنا، مؤكِّدًا لنا أننا سننال ذات القوة، وأننا سنعمل معه، ولذلك قال : “الأعمال التي أعملها الآن ستعملوﻧﻬا وستعملون ما هو أعظم منها” (راجع يو 17:14) مؤكدًا أن الملء سوف يكمُل بنا بواسطته، أي كمال عمل الله الذي سيقوم به الرسل والشهداء واُلمعلمين نائلين شركة في أعمال الرب التي سوف تملأ المسكونة.
ثانيًا: لقد فتح الرب بمسحته ينبوع الروح القدس للإنسانية. هو بذاته فتح لنا هذا الينبوع. ونحن لم نأخذ مواهب القوة التي أخذها شمشون؛ لأن القوة الجسدانية ليست هي المطلوبة في التجديد. لقد كانت – هذه القوة – مطلوبة لمقاومة قوة الآلهة الوثنية، أي الشياطين. أمَّا الآن، وقد نقل الرب التجديد إلى قلب الإنسان، صار من الضروري أن تُنقل قوة الروح إلى الإنسان “الباطن” الجديد المخلوق حسب الله (أف 24:4)، لذا أخذنا مواهب روحية لم تكن معروفة للأنبياء مثل طرد الشياطين. ولم تعد موهبة النبوة خاصة وقاصرة على أحداث المستقبل فقط، بل على خفايا وأسرار القلب، وهي أصعب بكثير؛ لأن قلب الإنسان أعمق من أعماق البحار، ومظلم لا يعرفه الإنسان نفسه بدون روح الحكمة وربنا يسوع المسيح الذي يسكن فينا معلنًا لنا أسرار قلوبنا.
وحسب غنى الروح أخذنا مواهب الشفاء والتكلم بالألسنة الجديدة (مر9:16) ووضع اليد لإقامة خدام الكلمة، ومواهب الكهنوت، وتقديس الخليقة: الماء، والخبز والخمر، والزيت المقدس، الميرون، وتقديس الأيقونات؛ لأننا بسبب معمودية الرب وتجلِّي الرب على جبل طابور، دخلنا تجديد الخليقة التي صارت تتجلَّى بالنور الإلهي.
وقد شرح الأب ديونيسيوس معلمنا الفاضل كل ذلك في كتابه الذي وضع فيه تسليم الآباء. ونكتفي بما ذكره معلمنا الفاضل، وهو أن الروح القدس ظهر في الإعلانات الإلهية في شكل الخليقة المنظورة: ألسنة النار، الريح العاصف، الحمامة الوديعة معلنًا لنا محبة الله للخليقة المنظورة غير العاقلة وإشتراكها في التجديد؛ لأﻧﻬا دُعيت إلى مجد ابن الله بعد أن خضعت للباطل (رو 8:8) ، ولذلك السبب عينه يقدِّس الروح القدس المياه في المعمودية وغسل الأرجل، والخبز والخمر في الإفخارستيا، وزيت طرد الشياطين والميرون المقدس في المعمودية، ومسحة المرضى؛ لأن كل الخليقة تسبِّح وتبارك وتشترك في خدمة إرادة وإعلانات خالقها الثالوث القدوس.
لقد مُسِحنا في الرب، وهذا ما يؤكده القديس بولس الرسول: ” الذي يثبِّتنا معكم في المسيح، وقد مسحنا هو الله الذي ختمنا أيضًا وأعطانا عربون الروح في قلوبنا “( 2كور21:1 ـ22).
ومتى مُسِحنا في المسيح؟ أليس عندما حَلَّ عليه الروح القدس في الأردن؟ نحن فيه منذ الأزل، حسب قول الرسول “اختارنا فيه قبل خلق العالم ” (راجع أف 4:1) ولكن ذلك الإختيار ظهر في الدهور، مُعلَنًا في حياة الرب نفسه، لذلك جاء واعتمد ومُسِح لكي يؤسِّس معموديتنا ومسحتنا فيه، وهذا هو السبب في أننا لا نُعيد معمودية المرتدِّين؛ لأﻧﻬم اعتمدوا في الرب حسب التدبير، والرب إعتمد مرًة واحدة عَمَّدَ فيها كل الآتين إلى الإيمان فيه لكي ينال بعد معموديته كل واحد نصيبه حسب تدبير الله اُلمعلن في المسيح.