هناك بُعدان في تركيبة الطبيعة البشرية (نفس وجسد)، وأي خلل يشوب الطبيعة المتكاملة من الجسد والنفس نسميه مرض. والكارثة النهائية هي الموت بانفصال النفس عن الجسد.
فبعدما عاش آدم وحواء مع الله في جنة عدن كَسرا الوصية، وتبع ذلك انفصالهما عن الله، وخروجهما من جنة عدن. وكان ذلك بداية لظهور كل خلل متوقع في كل نواحي حياتهما، لأنهما انفصلا عن مصدر الحياة، وهكذا بالخطية دخل الموت والفساد للجنس البشري بأكمله.
ومن ثم كانت الخطية هي المرض الرئيسي الخفي الذى يعمل في نفس آدم، والموت يعمل في داخل نفسه من خلال الخطية. هذا الموت بدأ عمله داخل آدم بصورة غير مرئية، ولكن بعد ذلك أصبح الموت يعمل في آدم بطريقة منظورة أيضاً، فظهرت الأمراض الجسدية التي لم تكن موجودة قبل مرحلة السقوط.
مرض النفس هو الخطية:
بانفصال الإنسان عن الله أصبح الإنسان لا يرى سوى الأمور المادية فقط. وعقله الذي هو عيونه الداخلية اظلم وأُغلق عليه عن معرفة الله، فأصبح لا يرى سوى الأمور الملموسة فقط، والتي يراها من خلال عيونه الخارجية. لم يَفطن آدم لما أصاب نفسه نتيجة دخول الخطية، في الوقت الذى يلاحظ فيه جيداً ما يحدث في جسده من تغيرات، فعندما يمرض جسده يشعر به، لكن مرض النفس لا يلاحظه ولا يراه، وبالتالي لا يبحث له عن علاج. فإن كانت النفس فيها أمراض أو أهواء، كما يقول بعض الآباء مثل البُغضة والكبرياء والنجاسة والحسد والأنانية……إلخ. كل هذه الأمراض تصيب النفس لكن الإنسان غير واعٍ بها ويرى فقط الأمراض الجسدية.
لذا بدأ الله يلفت نظر الإنسان لهذا المرض، ويبين له كيف أنه مشكلة كبيرة وتحتاج علاج. فوضع الله في التوراة بعض القواعد التي تظهر الإعاقة، التي يمكن أن يسببها المرض، ولكن التوراة كانت تخاطب الإنسان الجسداني الذي لا يستطيع أن يلتفت للداخل. فبدأت التوراة تتحدث عن أمراض الجسد الظاهرة وكيف أنها مُعطل لحياة الإنسان، فمثلا:
+ نجد أن هناك أمراضاً تُصيب الإنسان، وتمنعه من التواجد في محضر الله، أو أن يقدم ذبيحة أو يقدم عبادة لائقة لله.
+ هناك مرض آخر يُعطل الإنسان عن خدمة الله، فنجد في الوصايا الخاصة باللاويين والكهنة، مثلاً، أنه إن كان أعرج أو عنده مرض ما لا يخدم في الهيكل.
+ وهناك أيضاً أمراض تُعطل الإنسان عن التواجد مع الآخرين، فمثلاً الأبرص يكون خارج المحلة، ويكون منبوذاً ومطروداً.
وعندما تجسد المسيح وجاء بين الناس، أتى لنا بإعلان هام، وهو الإعلان عن ملكوت الله “يُكْرَزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَمِ” (مت24: 14). لقد كانت إرسالية المسيح الرئيسية أو رسالته التي كان يريد أن يوصلها للناس، هي “توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات”. كان يُعلن أن ملكوت الله أصبح قريباً من الإنسان، وفى متناول يده، وحال بين الناس، فمن يريد مملكة الله فلينضم إليها. لقد كانت شفاءات المسيح الكثيرة إعلان عن هذا الملكوت، لكي يعوض الإنسان عما فقده، لأن الإنسان (آدم وحواء) كان يعيش في جنة عدن في وسط مملكة الله، أي المكان الذى يملك عليه الله، وعندما طُرد الإنسان منها جاء المسيح بمملكته للإنسان.
المسيح هو مركز مملكة الله، لذا إذا كان المسيح في وسطنا فنحن في مملكة الله، ولكي يستوعب الإنسان المادي الجسداني هذا الحق، كان لابد أن يُعلن المسيح عنه بطريقة منظورة من خلال شفاء المرضى، وإخراج الشياطين وتحريرهم من أسر إبليس، وغفران الخطايا. فالآيات والعجائب التي كان يصنعها المسيح هي آيات أكثر منها معجزات. والفرق بينهما: أن الآية تعني علامة أو مدلول معين أو عَرض معين لأمر لا نراه، وأما المعجزة فهي كلمة تعني أن هناك أمر خارق للطبيعة حدث ولكن ليس له مدلول بالضرورة.
لذا عندما يصنع المسيح “آية” فمدلولها أن ملكوت الله قد جاء. فالمسيح عندما قابل أبرصاً وشفاه دل ذلك على أن ملكوت الله أصبح في وسط الناس، وأن مملكة الله لن يكون فيها مرض.
كذلك شَفَى الإنسان الأعمى، ليفتح له بصيرته الداخلية. وحذر المفلوج من الرجوع للخطية «ها أنتَ قد بَرِئتَ، فلا تُخطِئْ أيضًا، لئَلّا يكونَ لكَ أشَرُّ»، ومعنى ذلك أن المسيح لم يكن طبيباً معالجاً زمنياً، بل كان يكشف لنا ما وراء المرض، ويعطي الشفاء، وكانت أولويته هي استعلان ملكوت الله.
ويجب أن ننتبه إلى أن كل من شفاهم المسيح، إما مرضوا مرة أخرى أو ماتوا، مثل لعازر حبيب المسيح بعدما أقامه المسيح من القبر، جاء وقت ومات أيضاً. إن إرسالية المسيح هي استعلان مملكة الله، وبالتالي فهي تُقدم للإنسان شفاءً، ولكن ليس شفاءً جسدياً فقط. فالإنسان بحسب منظوره الساقط يبحث فقط عن شفاء جسدي، لكن المسيح أتى ليقدم شفاءً متكاملاً. جاء يشفي العالم بالكامل على مستوى النفس والجسد، يشفي دواخل النفس من الخطية ومن أهوائها، ويشفي جسده، بل أيضاً ليعيد من جديد علاقة الإنسان مع الله، ومع الآخرين.
أما من جهة شفاء الجسد بالكامل، فذلك سيكون بالقيامة من الأموات. هذه طريقة الله في شفاء الأجساد بالنسبة للبشر. عندما قام المسيح من الموت، قام بطبيعة لا تمرض ولا تعرف الموت فيما بعد، ونحن ننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي، ذلك هو رجاء المسيحية. أما أولويتنا في الوقت الحالي (الحياة في هذا العالم) فهي لشفاء النفس من الداخل.
نحن ننشغل دائماً بأمراض أجسادنا، لأن المرض مصدر رُعب للبشر، لأنه يسبب معاناة وآلام وإحباط واكتئاب، ويعطل الإنسان عن ممارسة عمله، الخدمة، والذهاب إلى الكنيسة. بالفعل فالإنسان المريض ينعزل وينحصر في نفسه ويذبل ويموت. في المقابل، فالشفاء ليس أمر فردي، أي له مردود فردي على الإنسان فقط، فبه يُصبح الإنسان مؤهلاً للعشرة مع الله، ويُصبح لديه الإمكانية أن يحيا مع الآخرين أيضاً، بطريقة صحيحة.
وعندما صعد المسيح إلى السماء كلف الكنيسة بصفة عامة أن تُكمل إرساليته (إرسالية الشفاء)، مما يضمن صحة العلاقة مع الله والآخرين، كما في نقرأ في إنجيل القديس لوقا: “اكرزوا بالملكوت واشفوا مرضى”، وهذه العبارة تكررت كثيراً ليس فقط في الأناجيل الأربعة، ولكن أيضاً في سفر أعمال الرسل، لكي يستعلن للكنيسة أن مملكة الله افتتحت في وسط العالم، لمن يريد أن ينضم لها.
فما هو الدليل على وجود مملكة الله؟ أن الموتى يقومون والمرضى يشفون، وأصبح الإنسان مقبولاً، ويعرف أن يعيش كعضو في جسد المسيح (الكنيسة).
وإذا كانت الأناجيل الأربعة وسفر أعمال الرسل تركز بشدة على الشفاء الجسدي، نجد رسائل بولس وبطرس ويعقوب ويوحنا تركز على الشفاء النفسي، فمحورها الأساسي هو شفاء الإنسان من الداخل أكثر من الخارج. الأولوية الآن أن يُشفى الإنسان من أمراض نفسه، وتحريره من أي شيء يُعطله عن التقابل مع الله، وعن اتحاده بالله، وضمانه لأبديته، وهذا الضمان لا يأتي إلا إذا شُفي من خطيته، لأن الخطية تكون معطلاً وحاجزاً بين الإنسان والله. لذلك لكي يضمن الله أبديتك وخيرك، يجب أن ينزع منك الخطية وأهواءها. لذلك نجد الكنيسة الأولى بعد حلول الروح القدس عليها، بدأت مسيرة الشفاء وظهر ذلك في الرسائل، حيث انفتحت البصيرة الداخلية للبشر بعمل الروح القدس، وبدأوا ينظرون إلى دواخلهم ويرون أن أنفسهم مريضة وتحتاج إلى الشفاء. فبعد فتح الأعين الداخلية لم يعد هناك داعٍ للتركيز على الشفاء الجسدي الخارجي، وليس معنى ذلك ألا نطلبه، ولكن من سيطلب الشفاء النفسي سيناله.
مثال لذلك نجد القديس بولس نفسه طلب ثلاث مرات من أجل شفاء شوكة في جسده ولم ينل، لكن هل جاء إنسان بخطيته إلى الله التي تعطله عن أبديته والله رفض! هذا مستحيل.
المرض النفسي هو نموذج للمرض الغير منظور. وتدهور الجسد وأمراض الجسد تُعلن لنا أنه هناك على التوازي أمراض في النفس وتدهور في النفس.
المسيح يريد أن يضمن لنا الاتحاد به، يريد أن يضمن لنا مكاناً في مملكته، وذلك بأن نفتح قلوبنا له وأن يكشف لنا الروح عما بدواخلنا، ويعلن حقيقة دواخلنا. في هذه الحالة يضمن الإنسان لنفسه مكاناً في مملكة الله.
وفي كنيستنا الأرثوذكسية نتعلم هذا المفهوم من صلوات مسحة المرضى، فنجدها تتحدث عن شفاء للنفس من الخطية وشفاء للجسد، والأهم في هذه الصلاة أن يحصل الإنسان على تحرير من الخطية فلا تمنعه عن الله أو الأبدية أوعن مجتمع الكنيسة.
د. شريف مراد
ماجستير في اللاهوت