نوفمبر 8, 2012 العظة (17) من عظات القديس مقاريوس الكبير عن الروح القدس – الجزء الأول

العظة (17) من عظات القديس مقاريوس الكبير عن الروح القدس – الجزء الأول

العظة السابعة عشر ـــ القديس مقاريوس الكبير

الجزء الاول

مسحة الروح القدس

“مسحة المسيحيين الروحانية ومجدهم، وإنه بدون المسيح يستحيل الخلاص وتستحيل الشركة في الحياة الأبدية”.

مسحة الروح:

            1- المسيحيون الكاملون الذين حسبوا أهلاً للوصول إلى مقاييس الكمال والإلتصاق جداً بالملك (المسيح)، هؤلاء يكرسون أنفسهم دائماً لصليب المسيح. وكما كانت المسحة في أيام الأنبياء هي أثمن من جميع الأشياء – إذ أن المسحة جعلتهم ملوكاً وأنبياء، هكذا الأشخاص الروحيون الآن، الذين يمسحون بالمسحة السماوية فإنهم يصيرون مسحاء بحسب النعمة، فيكونون هم أيضاً ملوكاً وأنبياء للأسرار السماوية.

            هؤلاء هم أبناء وأرباب وآلهة، مأسورون ومستعبدون لنعمة الله، ومستغرقون في العمق، مصلوبون ومكرسون. فإن كانت مسحة الزيت، التي أستخرجت من نبات مادي – من شجرة منظورة لها كل هذه القوة، حتى أن أولئك الذين مسحوا بها، نالوا كرامة فوق كل إعتبارـ فإنه هكذا كانت القاعدة الثابتة التي بها يعينون ملكاً، فداود مثلاً بعد أن مسح، وقع في الحال في إضطهاد وآلام، ثم بعد سبع سنوات صار ملكاً – فكم بالحري جداً كل الذين يمسحون في العقل والإنسان الباطن بدهن البهجة (عب 1 : 9) الذي يقدس ويبهج، الدهن السماوي الروحاني، ينالون علامة ذلك الملكوت الذي لا يفنى، والقوة الأبدية، عربون الروح (2كو 5 : 5)، أي الروح القدس المعزي. وهو يسمى المعزي لأنه يعزي أولئك الذين في الشدائد.

الدخول منذ الآن ومعاينة النور:

            2- فهؤلاء إذ قد مسحوا من شجرة الحياة – أي يسوع المسيح الغرس السماوي، فإنهم ينالون إمتياز المجيء إلى درجات الكمال، درجات الملكوت والتبني، ويكونون مشاركين حقيقيين في أسرار الملك السماوي وخفاياه، إذ يدخلون بحرية إلى القدير، يدخلون في قصره حيث يكون الملائكة وأرواح القديسين، وهم يدخلون منذ الآن بينما هم لا يزالون في هذا العالم. ورغم أنهم لم ينالوا الميراث الكامل المعد لهم في ذلك الدهر، فإنهم متيقنون – عن طريق العربون الذي قد نالوه الآن – كأنهم قد كللو أو ملكوا، وإذ هم عتيدون أن يملكوا مع المسيح، فإنهم لا يستغربون وفرة وحرية فيض الروح.  لماذا؟  لأنهم حصلوا – وهم لا يزالون في الجسد ــ  على لذة حلاوته وعلى عمل قوته الفعالة.

            3- فحينما يكون إنسان ما صديقاً للإمبراطور، ويعمل في قصره ويتعرف على أسراره وخفاياه، وينظر أرجوانه، فاذا صار ذلك الإنسان هو نفسه إمبراطوراً  فيما بعد، وتوج فإنه لا يندهش أو يصدم (بما في القصر) حيث أنه سبق أن تدرب طويلاً في أسرار القصر وخفاياه. فلا يستطيع شخص ساذج أو جاهل أو غريب عن خفايا القصر أن يدخل القصر ويملك، بل يستطيع ذلك فقط أولئك الذين لهم خبرة وتدرب، وكذلك المسيحيون الذين سيملكون في الدهر الآتي، فإنهم لا يستغربون، إذ أنهم سبق أن تعرفوا على أسرار النعمة وخفاياها.  فحينما تعدى الإنسان الوصية ألقى الشيطان على النفس حجاباً مظلماً. ثم تأتي النعمة فتزيل الحجاب تماماً، حتى أن النفس إذ تصير نقية، وتستعيد طبيعتها الأصلية، وتصير صافية بلا عيب، فإنها تنظر دائماً بصفاء – بعينها النقية – مجد النور الحقيقي، وشمس البر الحقيقية ساطعة بأشعتها داخل القلب نفسه.

            4- وكما أنه في نهاية العالم تزول السماء (الجلد) ويعيش الأبرار حينئذ في الملكوت والنور والمجد ولا يعاينون شيئاً آخر سوى المسيح وهو في المجد جالس دائماً عن يمين الآب، هؤلاء الناس يختطفون منذ الآن إلى ذلك الدهر الآتي ويؤسرون، وهناك يعاينون كل أنواع الجمال والبهاء والعجائب.

            فنحن رغم إننا على الأرض فإن “مدينتنا هي في السموات” (في 3 : 20) إذ فيما يخص العقل والإنسان الباطن،  نصرف وقتنا ونقوم بأنشطتنا في ذلك العالم.  وكما أن العين الظاهرة – عندما تكون صافية – ترى الشمس دائماً بوضوح، هكذا العقل المطهر تماماً فإنه دائماً ينظر مجد نور المسيح ويكون مع الرب ليلاً ونهاراً، كما أن جسد الرب المتحد باللاهوت هو دائماً مع الروح القدس.

قوة عمل النعمة وتأثير الخطية:

            ولكن الناس لا يصلون إلى هذه المقاييس في لحظة، بل بالتعب والآلام والجهاد الكثير. لأن البعض منهم تعمل النعمة معهم وتسكن فيهم، ومع ذلك فالشر أيضاً يعمل فيهم في الداخل فكل من النور والظلمة له عمل وتأثير على القلب الواحد بعينه.

            5- ولكنك ستسألني قائلاً: ” أي شركة للنور مع الظلمة ” (2كو 6 : 14) وكيف يتأثر النور الإلهي أو يظلم؟  وكيف يمكن أن يتلوث ما هو طاهر ونقي؟ كما هو مكتوب “النور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه” (يو 1 : 5) ولكننا لا يجب أن نفكر في هذه الأمور من وجه واحد وبدون تدقيق. فالبعض من الناس يستقرون في نعمة الله ويعتمدون عليها لدرجة عظيمة، حتى أنهم يصيرون أقوى من الخطية التي فيهم وينعمون بنعمة الصلاة وراحة كثيرة في الله، ولكنهم في لحظة أخرى يكونون تحت تأثير الأفكار الشريرة وينخدعون بالخطية بالرغم من كونهم لا يزالون في نعمة الله.

            ولكن الناس ذوي العقول الخفيفة – الذين لم يدركوا حقيقة الأمر – حينما تعمل فيهم النعمة، إلى حد ما، فإنهم يتخيلون إنه لم يبق هناك شيء إسمه خطية. أما الذين لهم تمييز وفطنة فلا يجرؤون أن ينكروا إننا حتى مع حصولنا على نعمة الله فإننا معرضون لتأثير الأفكار الشريرة والمنجسة.

            6- لقد وجدنا أمثلة كثيرة بين الإخوة الذين حصلوا على فرح عظيم ونعمة هذا مقدارها حتى إنهم لمدة خمس أو ست سنوات متتابعة جفت فيهم الشهوة ولكنهم بعد ذلك حينما ظنوا أنهم صاروا أحراراً تماماً منها، فإن الشر الذي كان مختفياً تحرك عليهم ثانية وإشتعلت فيهم الشهوة، حتى أنهم تعجبوا وقالوا “من أين جاء علينا وقام ضدنا هذا الشر بعد كل هذا الوقت الطويل”؟

            فلا يجرؤ إنسان ذو عقل سليم أن يقول “حيث أن النعمة حاضرة فيَّ فأنا حر من الخطية على الإطلاق” والحقيقة فإن كل من النعمة والخطية يكون لها – في ذلك الوقت – عمل وتأثير على القلب.

            والذين ليس لهم خبرة في هذه الأمور، حينما تعمل فيهم النعمة بعض العمل، يتصورون أنهم قد وصلوا إلى الظفر الكامل وصاروا مسيحيين كاملين.

            ولكن من جهتي أنا أقول أن حقيقة الأمرهي هكذا:  حينما تكون الشمس في السماء مشرقة في جو صاف ثم تأتي السحب وتحيط بها وتغطيها، وتجعل الجو معتماً، فان الشمس مع ذلك تكون بعيدة جداً ولا يضيع شيء من نورها ولا من جوهر طبيعتها، هكذا هو الأمر مع أولئك الذين لم يتطهروا ويتنقوا تنقية كاملة. إنهم يكونون في نعمة الله، ولكنهم ممسكين تحت السطح بالخطية ولذلك فان حركاتهم الطبيعية، وأفكارهم الحقيقية، متجهة بقوة إلى الله وبالرغم من ذلك فإنها ليست مرتبطة إرتباطاً كلياً بالصلاح.

           7- ومن الجهة الأخرى فهناك البعض الآخر هم ممسكين في العمق بقوة الخير والصلاح – قوة النعمة –  ومع ذلك لا يزالون في عبودية وخضوع للأفكار الشريرة وجانب الشر. لذلك فالأمر يحتاج إلى إفراز كثير لكي يعرف الإنسان بالإختبار أن حقيقة الأمر هي هكذا. وإني أذكر لكم أنه حتى الرسل رغم نوالهم المعزي في داخلهم لم يكونوا خاليين تماماً من الخوف فإلى جانب إمتلائهم من الفرح والبهجة كان فيهم أيضاً خوف ورعدة  ناشئة من النعمة نفسها وليست ناشئة من جانب الشر،  وكانت النعمة نفسها تحفظهم.  وتحرسهم لكي لا ينحرفوا أقل إنحراف.

            فإذا رمى إنسان حجراً صغيراً على حائط فإنه لا يضر الحائط ولا يحركه من مكانه وإذا أطلق سهم على رجل يلبس درعاً فإنه لا يضر لا درع الحديد ولا جسم لابس الدرع لأنه ينعكس ويرتد إلى خلف.  هكذا حتى إذا إقترب جزء صغير من الشر من الرسل، فإنه لم يكن ليجرحهم أو يضرهم لأنهم كانوا مكتسين بقوة المسيح الكاملة وإذ كانوا كاملين، كانت لهم الحرية الكاملة لعمل البر بكل أنواعه.

            8- أن البعض يقولون أن النفس بعد نوالها النعمة تصير بلا خوف ولكن الله يطلب إرادة النفس – حتى في الكاملين – لتصير في خدمة الروح، لكي يعملا كلاهما في توافق وإتفاق.

            فالرسول يقول ” لا تطفئوا الروح ” (1تس 5 : 19) فالبعض منهم كانوا غير راغبين أن يثقلوا على غيرهم، والبعض كانوا يسيرون على حدتهم، والبعض الآخر كانوا يأخذون من العائشين في العالم  ويوزعون على الفقراء. وهذا كان أفضل.

            لأن البعض تكون فيهم النعمة فيهتمون فقط بنفوسهم بينما يسعى آخرون لمنفعة نفوس أخوتهم أيضاً وهؤلاء أفضل من الآخرين.  والبعض من الذين لهم النعمة يسلمون أجسادهم للتعييرات والآلام من أجل إسم الله  وهؤلاء أيضاً أفضل من أولئك. والبعض في سعيهم إلى الفضيلة يميلون إلى التشامخ وإلى نوال الكرامة والمديح من الناس، ويقولون أنهم مسيحيون وشركاء للروح القدس. وأخرون يجتهدون في إخفاء أنفسهم حتى من مقابلة الناس وهؤلاء أفضل من أولئك الآخرين.  وهكذا ترون أنه حتى في الكمال تكون الإرادة الصالحة نحو الله المتوافقة بتكامل مع الإرادة الطبيعية هي التي تعلو وتتفاضل كثيراً جداً.

 

اترك رد