2. الوعد بحلول الروح القدس، أول ما تحقَّق في معمودية المسيح:
– وفي موضع آخر يعود القديس كيرلس إلى شرح نفس هذه الأمور مُبيِّناً أن معمودية المسيح كانت بداية تحقيق موعد الآب بإرسال الروح القدس على كلِّ جسد بحسب نبوَّة يوئيل النبي:
+ إن ذلك الكائن الحي العاقل الأرضي، أعني الإنسان، قد جُبِلَ منذ البدء على غير فساد. وأما سبب عدم فساده وثباته في كل فضيلة، فقد كان بكل تأكيد سُكنى روح الله فيه بحسب المكتوب أنَّ الله «نفخ في أنفه نسمة حياة» (تك 2: 7). ولكن لما تحوَّل الإنسان إلى الخطية منذ الغواية الأولى ثم تقدَّم فيها بالزيادة مع مرور الزمان، فقد فارقه الروح مع سائر الخيرات التي فارقته.
وهكذا في النهاية صار الإنسان ليس فقط خاضعاً للفساد، بل ومنجرفاً أيضاً لكل إثم. ولكن لمَّا قصد خالق الجميع بصلاحه الفائق أن ”يُجدِّد كل شيء في المسيح“ (أف 1: 10)، وأراد أن يُرجع طبيعة الإنسان إلى جودتها الأصلية؛ وَعَدَ أن يُعطيه من جديد الروح القدس مع سائر الخيرات، لأنه لم يكن مُمكناً بغير ذلك الروح أن يعود الإنسان ويقتني بثبات الخيرات الصالحة. لذلك فقد أشار إلى زمان حلول الروح القدس علينا، ووعد قائلاً: «ويكون في الأيام الأخيرة – أي أيام المخلِّص – أني أسكب من روحي على كل جسد» (يوئيل 2: 28 – حسب السبعينية).
ولما جاء زمان ذلك الإحسان الأعظم وأتى إلينا الابن الوحيد على الأرض، أي أنه صار إنساناً مولوداً من امرأة بحسب المكتوب (غل 4: 4)؛ فحينئذ بدأ الله الآب يُعطي الروح من جديد.
وكان المسيح أول مَن قَبِلَ الروح بصفته باكورة الطبيعة المتجدِّدة، لأن يوحنا شَهِدَ قائلاً: «إني قد رأيتُ الروحَ نازلاً مثل حمامة من السماء، فاستقرَّ عليه» (يو 1: 32).
ولكن كيف قَبِلَه؟ ينبغي أن نفحص جيداً ما قيل: هل قَبِلَهُ كأنه لم يكن يقتنيه من قبل؟ حاشا! لأن الروح هو روح الابن الخاص، وهو لا يأتيه من خارج كما يأتينا نحن من الله من الخارج، ولكنه كائنٌ فيه جوهرياً كما في الآب أيضاً، ومن خلاله ينسكب على القديسين بحسب ما يقسم الآب لكل واحد. ولكن يُقال إنه قد قَبِلَ الروح من حيث إنه قد صار إنساناً، وإنه يليق بالإنسان أن يقبل وينال.
فكما إن المسيح مع كونه ابن الله الآب المولود من جوهره من قَبل التجسُّد، بل ومن قبل كل الدهور، لا يستحي الله الآب أن يقول له لما صار إنساناً «أنت ابني، أنا اليوم ولدتك» (مز 2: 7؛ عب 1: 5) (أي أن الذي له الميلاد الأزلي لا يستحي أن يُنسب إليه أيضاً من أجلنا الميلاد الزمني)، لأن ذاك الذي كان إلهاً ومولوداً من الآب قبل كل الدهور، يُقال عنه إنه قد وُلد أيضاً اليوم حتى يقبلنا الآب نحن أيضاً فيه في التبنِّي، لأن الطبيعة البشرية كلها كانت في المسيح من حيث إنه كان إنساناً؛ هكذا أيضاً بنفس الكيفية يُقال عن الابن الذي له روحه الخاص، إن الآب أعطاه الروح القدس حتى نستطيع نحن أيضاً فيه أن نقتني الروح. فإنه لهذه الغاية ”قد أمسك (بمعنى: يُقوِّي، يُعزِّز، يُساعد) نسل إبراهيم“ (عب 2: 16)، كما هو مكتوب: «مِن ثمَّ كان ينبغي أن يُشبه إخوته في كل شيء (ما خلا الخطية وحدها)» (عب 2: 17).
فالابن الوحيد، إذن، يقبل الروح القدس، ليس لنفسه هو لأن الروح له وفيه وبه – كما قلنا سابقاً – ولكن من حيث إنه له في نفسه كل طبيعتنا لكونه إنساناً. لذلك فهو يقبل الروح حتى يستطيع أن يرفع كل طبيعتنا في نفسه ويُشكِّلها من جديد على حالتها الأولى.