إن سفر المزامير هو سفر قادر أن يعلمنا بحق كيف نصلي، وكيف يكون توجهنا من نحو الله. وهذا بالإضافة لبعده النبوي والمسياني. ويمكن تصنيف كل مجموعة من المزامير بحسب موضوعات عدة مثل التوبة، والخلاص، والتسبيح، إلخ… أما المزمور الخامس فينتمي إلى مجموعة المزامير المتعلقة بالبراءة والبر، مثل مزمور 26 ، 139.[1]
من المنظور المسياني
يمثل هذا المزمور نبوة عن مسيح الرب، البار، والذي يحتمل الضيقة من الأشرار ظلماً، وهو أيضاً عبد الرب المتألم الذي تنبأ عنه إشعياء النبي، ولكنه يناجي أبيه لكي يصنع عدلاً بتخليصه من يد أعدائه (الموت)، وهو ما يتحقق بالقيامة. وبالتالي يستعلن هذا المزمور الخلاص الإلهي بقوة. ولا ننسى أن ابن الله دُعيَّ يسوع “لأنه يخلص شعبه”.
من المنظور الليتورجي
يقع هذا المزمور ضمن مزامير صلاة باكر، وهو ما يؤكد فهم الكنيسة له من جهة حمله لدلالات متعلقة بالقيامة. حيث أن صلاة باكر تُصلى في بدء النهار الجديد والساعة التي قام فيها المسيح من بين الأموات. فبالنهار الجديد تتبدد الظلمة (الموت) ويقوم النائمون من رقاد النوم (الموت الصغير). وذلك تحقق في المسيح بقيامته من الموت بعد نزوله إلى ظلمة الجحيم.
على المستوى الشخصي
يبدو مدخل هذا المزمور وكأنه صرخات استغاثة: “لِكَلِمَاتِي أَصْغِ يَا رَبُّ. تَأَمّلْ صُرَاخِي”، هنا شخص ما في ضيق وكرب، أو مأساة، يطلب المعونة والنجدة. والمعونة هنا تُطلب من الإله القادر على كل شيء، فهو الملاذ الأخير. وهذا الرب بعيد وقريب بآن واحد، فهو متعالٍ في السماء (“مَلِكِي وَإِلَهِي”)، ولكننى أيضا على صلة به (“إِلَيْكَ أُصَلّي”). ولأنه كُلي الحكمة فالإنسان يسلم له، ويخضع لتدبيره قائلاً “َأَنْتَظِرُ”. أما مصطلح “بِالْغَدَاةِ” فيحمل معنى الأبدية والديمومة، “وتسمع صَوْتِي” يفيد البقاء حياً، وأيضا العلاقة (أُوَجّهُ صَلاَتِي نَحْوَكَ). وهذا في مجمله يُقصد به أن الإنسان يجد حياة أبدية من خلال اتصاله بالله في علاقة شخصية يتجه فيها الكيان كله “نحو” الرب.
ولكن إن كان هناك “آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ” (رو 8: 18) فهناك أيضاً الإنتظار، وما الإنتظار إلا الرجاء كما يعلمنا بولس الرسول،”لأَنّنَا بِالرَّجَاءِ خَلَصْنَا” (رو 8: 24). لذلك يستدرك المرنم قائلاً “وَأَنْتَظِرُ”. وَلكِنَّ الرَّجَاءَ الْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً، لأَنَّ مَا يَنْظُرُهُ أَحَدٌ كَيْفَ يَرْجُوهُ أَيْضًا ؟” (رو8: 24). وهو أيضاً إيمان بالله كمخلص، “وَأَمّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى” (عب 11: 1).
ولكن هل بالحقيقة أن الله غافل عن ضيقي؟ فيحتاج أن أنبهه: “أَصْغِ يَا رَبُّ. تَأَمّلْ صُرَاخِي”. أبداً فهو ساهر على كل ما يختلج بقلبي، ويتألم لألمي ويبكي لبكائي، هكذا رأينا المسيح حين صار واحداً منا، مجرباً كي يعين المجربين. ولكن الإنسان يحتاج لأن يعبر عن معاناته بحسب طريقته البشرية، يحتاج لأن يُخرج معاناته خارج ذاته ويلقيها على آخر، هو أبيه السماوي. فيا لبؤس هذا العالم الذي تنبع كل معاناة فيه من غياب الآب السماوي. وطوبى لكل من تجسدت فيه أبوة الآب، فعمل على توصيل هذه الأبوة لأولاد الله. ومبارك هو كل من انفتحت عيناه فعرف الله كآب بإعلان الروح القدس. أليس لذلك قد جاء المسيح بكرنا؟ أي ليعلن لنا الآب. لكن الحقيقة أن الإنسان هو من يحتاج أن يصغي لكلمات الرب لكي ما يجد راحة. فالله يكلمنا بهمسات الحب والنصح والإرشاد. ليس ذلك فقط، بل إن كلمته خلاقة، فهو يأمر “ليكن” “فيكون”. على نفس القياس، كلمة الرب تخلق فينا كل جديد حين نقبلها بقلوبنا في صلاة.
لكن كيف يرى الإنسان النجاة من ضيقه وموته؟ بالنسبة لمرنمنا فى هذا المزمور فانتظاره يكلل بأن ” أَدْخُلُ بَيْتَكَ. أَسْجُدُ فِي هَيْكَلِ قُدْسِكَ”. وهو ذاته الدخول إلى دائرة ملكوت الله، هذا الملكوت المجيد الذي هو مجال مُلك الثالوث القدوس، وتجلي حياة شركة محبتهم المقدسة. وملكوت الله “لاَ يَقُولُونَ: هُوَذَا ههُنَا، أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ! لأَنْ هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ».” (لو17: 21)، فملكوت الله متسع ويبتلع الزمكان[2]، أي أن ملكوت الله، أولاً، لا يحده مكان فهو في قلب الإنسان وهو في الكنيسة، وهو أيضاً في السماء، وثانياً، لا يحده زمان “هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ.” (عب 13: 8)، والأهم، أنه من الآن، ملكوت الله “قَدِ اقْتَرَبَ” (مت 4: 17)، بالحقيقة قد صار ملكوت الله في متناول يدنا، إن قبلناه بالتوبة.
المجد لله، فبالمسيح صارت النجاة هي غداً، في الصباح القادم، وبعد زوال الليل، زمنيا، وأبدياً. ولكن على كل حال يجدر بنا أن نحيا بهذا الإشتياق نحو رؤية وجهه، “بالغداة أقف أمامك وتراني” (الترجمة القبطية). من يشتاق كثيراً يفرح كثيراً، هكذا وعد المسيح: “فَأَنْتُمْ كَذلِكَ، عِنْدَكُمُ الآنَ حُزْنٌ. وَلكِنّي سَأَرَاكُمْ أَيْضًا فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ، وَلاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ.” (يو 16: 22).
فالله بعد أن “يدين” و”يسقط” و”يطوح” الأشرار ( الذين هم: الخطية والعالم وإبليس)، هؤلاء الذين يقفون عائقاً أمام وصول الإنسان لأرض الموعد، وعندما يتكلل دخوله بالفرح كما يعبر المرنم: “وَيَفْرَحُ جَمِيعُ الْمُتّكِلِينَ عَلَيْكَ. إِلَى الأَبَدِ يَهْتِفُونَ وَتُظَلّلُهُمْ. وَيَبْتَهِجُ بِكَ مُحِبّو اسْمِكَ”. فينطلق تسبيح أبدي من الإنسان، متهللاً بفرط الجمال الإلهي، الذي لا يمكن لكائن ما أن يفحصه أو يستكشفه بالتمام حتى إلى الأبد.
على المستوى الكوني
بالنسبة للخليقة كلها، فهي تنتظر برجاء ذلك اليوم الذي تنتهي فيه معاناتها، أي بالقيامة العامة، “لأَنَّ انْتِظَارَ الْخَلِيقَةِ يَتَوَقّعُ اسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ اللهِ.” (رو 8: 19)، وايضاً “لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ. فَإِنّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخّضُ مَعًا إِلَى الآنَ” (رو 8: 21، 22). ستأتي ساعة حين يتجدد كل شيء، السماء والأرض وأيضاً “فِدَاءَ أَجْسَادِنَا” (رو 8: 23). أما الآن ف “َأنَّنَا بِالرَّجَاءِ خَلَصْنَا” (رو 8: 24).
[1]Dahood, Mitchell, S.J.: Psalms I: 1-50 Introduction, Translation, and Notes. New Haven; London : Yale University Press, 2008, S. 29
[2] الزمكان هو نموذج رياضي مستخدم في علم الفيزياء، يجمع بين الزمان والمكان، إشارة لأبعاد هذا الكون، أي الزمن والطول والعرض والارتفاع.