واحدة من أهم وأقوى الأعمال التي يمارسها الإنسان هي الصلاة، فهي نداء الله الداخلي المستمر في كيان الإنسان، وتكمل حين يستجيب الإنسان لهذا النداء، ولكن هناك أمر خطير يقف أمام الإنسان ويعطله عن إتمام المقابلة الحقيقية التي يستمد منها وجوده وإدراكه بذات الله، إنه “الـــوقت”. في زماننا الحاضر الحياة مثل القطار السريع ونحن نحاول دائماً أن نلحق به، وهناك محطات كثيرة نمر عليها ولا نقف فيها، ولكن ما يهمنا هو المحطة القادمة، ودائماً مشغولين إما بالماضي أو ننتظر المستقبل، وعبر مشغوليتنا هذه تُسرق منا المحطة الهامة الحالية وهي (الآن) فلا نتمتع بها.[1]
نحن نشأنا في عالم يخلط بين الزمن والوقت، فالوقت هو ذاك الذي نراه في الساعة (هو طريقة قياس) ولكنه فعلياً لا شيء، وأما ما يحدث خلال الوقت “الحدث” فذلك هو الحقيقي. هذا الوقت الذي نقيسه يسير في اتجاه واحد بلا رجعة. وهناك الزمن: ماضي وحاضر ومستقبل، لكن المشكلة والمنهج الذي أعتدناه هو أن الحاضر بالنسبة لنا نقطة فاصلة بين الماضي والمستقبل، ويمر بنا سريعاً بدون انتباه له. وهنا تكمن خطورة هذا الأمر فانتباهي لما أفعله الآن غير موجود، وكثيراً ما يمر بنا دون أن نعيه ونشعر به أو نعيشه.
وفي الصلاة، حين نتقابل مع الله، كثيراً ما نكون متأثرين بالماضي أي ما تم حدوثه ويكون مستحوذاً علينا فكرياً ويشتتنا، أو نكون مشغولون بالمستقبل وما نريد تحقيقه، وبدلاً من التمتع ب”الآن” مع الله ونعيش معه هذه اللحظة، ونأخذ ما على قلبه لنا، تفوتنا المحطة فنخرج فارغين. والحقيقة أن الله لا ينتظر سوى تلك المقابلة مع الإنسان.
والإنسان المعاصر مُبرمج ليعيش في نمط ورتم حياة فُرضت عليه، أو ما يُسمى أسلوب حياة (life style)، فهو في صراع ليحقق احتياجاته التي حددها له العصر، ولكن الأخطر من كل هذا هو التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات التليفون المحمول. فالإنسان لا يستطيع أن يركز في شيء أكثر من دقيقتين أو ثلاثة أو في أفضل الظروف عشرة دقائق، وهذه حقيقة علمية، وذلك بسبب نظام البرمجة والتكنولوجيا والميديا الحالي الذي جعل مخ الإنسان يتوقف بعد وقت معين بسبب الفيديوهات القصيرة التي اعتدنا عليها، فلا نستطيع أن نفعل أكثر من ذلك وإلا فقدنا التركيز.
ومن المفترض أن يأتي وقت ونثور على هذا الوضع أو هذا النظام. هناك لحظات كثيرة موجودة لكننا غير واعيين لها، فمشكلتنا أن النظام أو الرتم يأخذنا في الآتي، ولكن بالنسبة لنا بسبب الإنهاك من الماضي والتطلع والشغف بالمستقبل فلا نركز أو نهتم باللحظة الحالية.
ما نهتم به الآن هو أن يتحول هذا الخط (الحاضر) إلى مساحة، لذا يجب أن تكون الدقيقة الحالية موضع كل اهتمامي وتركيزي. وأياً كان ما سوف تحققه فيها، ما تفعله أفعله وكأنه لا يوجد لديك مهام أخرى فهناك أمور في حياتنا يجب أن تأخذ حقها.
فالصلاة، التي هي مقابلة حقيقية مع الله، يجب أن تأخذ حقها مهما كانت دقائق أو ساعات. نحن نريد أن للدقيقة أو للعشرة دقائق أن تصبح أفقاً متسعا، فليس مهماً قيمة الوقت لكن المهم ما سوف يتحقق فيه.
الله ليس لديه زمن، لأنه غير زمني وغير مقيد بالزمن أو المكان كما نعلم، وعمله داخل الإنسان غير متوقف على الزمن، فلهذا نرى أن الكنيسة هي خارج الزمن، ولكنها في نفس الوقت في الزمن. عندما يكون الله طرفاً في المعادلة فإنه يدخل لي داخل الزمن، وفي نفس الوقت يسحبني أنا خارج الزمن، وهذه هي ملامح ملكوت الله، فعندما يأتي على الإنسان يصبح الزمن بلا قيمة. لكن المهم أنه في هذه الصلاة أكون أنا بالفعل داخلاً محضر الله أو إلى ملكوت الله، فلا نكون في محضر الله كأننا نقوم بعمل فرض أو واجب أو لنعرض مشاكلنا، واحتياجاتنا الأرضية فحسب، فهذه ليست بصلاة.
وكما برمجنا العالم لنفعل ما يريده، فهناك برمجة عكسية متاحة لنا. بواسطة عملية السكون والهدوء، لنقضي الحاضر (الآن) ونتمتع به. لذلك نحتاج أن نتمرن على السكون، والذي هو ليس صمت الصوت، ولكنه سكون من الداخل أولاً ثم رفض كل التأثيرات من الخارج، هو عملية تطهير وتنقية، هو تمرين روحي نتعلمه من الآباء والرهبان (حياة السكون)، ولكنه لازم لكل إنسان مسيحي. إن نظام الحياة (life style) الخاص بالعالم يتضاد مع الحياة المسيحية، لذلك نحتاج أن نسير في اتجاه عكسي لما يفرضه العالم.
وفي السكون نُفرغ الداخل من الأشياء والأحداث، والماضي والمستقبل، لكي نكتشف الملء الحقيقي كما يجب أن يكون، في السكون سنكتشف الحضور الإلهي الذي يملأ الكون كله ويملأ القلب، فالله موجود وحاضر داخلنا وليس خارجنا وليس متغيب عنا، ولكننا نحن مشتتين بسبب كم المدخلات والنظام الذي اعتدناه. نحن مقيدون والقيود تظهر فقط في محضر الله. وفي السكون سنكتشف الحضور الإلهي الذي يفوقنا، والذي لم أكن لأتخيل مقداره ومجده وبهاءه.
ليس فقط الأحداث التي تُشتتنا لكن أيضاً كثرة الكلام تفعل ذلك. في السكون في محضر الله لا أتكلم، حتى أعرف كيف أتكلم مع الله. يجب أن نتمرد على ما تبرمجنا عليه، نحن من نختار لأنفسنا أن نعيش بمنهج العالم أو نعيش “الآن”، حيث نصمت ونهدأ ونتقابل مع الله فتنتقل حواسنا انتقالا واضحاً من المنظور إلى العالم الروحي. كمثالٍ نرى إيليا عندما ذهب ليتقابل مع الله سمع صوت ريح وزلزلة، ولكن الله لم يكن فيهما، ثم سمع صوت خافت فوجد الله، ففي الهدوء نجد الله.
ويقول داود النبي: “إِنَمَا للهِ انْتَظِرِي يَا نَفْسِي، لأَنَّ مِنْ قِبَلِهِ رَجَائِي”. (مز 62: 5). هنا كلمة انتظري في العبري لا تعنى انتظار عادي، ولكن المقصود تسكين النفس أمام الله والهدوء في محضر الله. فعندما نمارس الهدوء والسكون في محضر الله سينفجر النور الداخلي، لأنه في محضر الله عندما نهدأ سنكتشف أن هناك كنزاً داخلياً لم نكن نعرفه، هناك قدس أقداس داخلي لم نعرفه، لأننا مخلوقين على صورة الله وهو مطبوع بداخلنا، فعندما نهدأ أو نسكن يتجلى في عقلنا اللوجوس[2] الذي خُلقنا على صورته.
[1] من وحي كتاب “لنبدأ الصلاة”، أنتوني بلوم.
[2] اللوجوس هو “كلمة الله” أي ابن الله.