يُعد هذا المزمور أطول مزمور في كل المزامير، وكان يُغَنى به. وهو مزمور مسياني نبوي، أي يتنبأ عن المسيا الآتي ابن الله الكلمة. ويركز هذا المزمور في مجمله على الإنسان البـــار الكامل، الذي يحفظ شريعة الرب، كما أنه يتحدث ببعض الألفاظ التي في مجملها تشير إلي المسيح مثل (الشريعة – الشهادات – الأقوال – الكلام – الوصية)، وكل هذا مجمل الفكر الإلهي أو التعبير الإلهي، الذي يتمثل في شخص المسيح، فكل الحق الإلهي والوصايا تجسدت في شخص يسوع المسيح الذي هو أبلغ تعبير عن الآب السماوي، فالآب حاضر في ابنه، ومن يرى الابن كأنه يرى الآب، لذلك قال يسوع “اَلّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ” (يو 14: 9). وبالتالي سنجد مفتاح هذا المزمور يتلخص في أول آيتين وهما: (1طُوبَى لِلْكَامِلِينَ طَرِيقًا، السَّالِكِينَ فِي شَرِيعَةِ الرَّبِّ.، 2 طُوبَى لِحَافِظِي شَهَادَاتِهِ. مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ يَطْلُبُونَهُ).
هذا الكلام يشير إلى أن كلام الله يتجسد في المسيح، وكلام الله يوصلنا للمسيح، إذ لدينا كلام الله، والله الكلمة (المسيح) ومن يتمسك بكلمة الله، فهذا هو الإنسان الكامل والبار.
هذا المزمور مقسم إلى أقسام، وكل قسم يبدأ بحرف من الأبجدية العبرية، وهي تبدأ مثل اللغة العربية (أبجد هوس) فهو اتخذ الأبجدية العبرية كلها وعمل منها ترنيمة لذلك فهي طويلة.
من هم الكاملين؟
هذا المزمور نبوي وفي نهايته يشير إلى المسيح، لكنه إذا كان يتحدث عن المسيح فهو الوحيد القادر أن يتمم الوصية الإلهية ومشيئة الله، وكأنه هو الذي يقول للآب السماوي إني حفظت وصيتك من كل قلبي. فالمسيح هو الوحيد الذي استطاع أن ينفذ وصية الآب بالكامل، وهو يستطيع أن يتمم الناموس، لأن الإنسان عاجز عن تتميم الناموس، المسيح هو المتمم لنا ونحن نتمم فيه الوصية الإلهية.
الإنسان يصير بار وكامل في المسيح، إذا استطاع أن يحفظ كلمة الله ويعيش بها حينئذ تثبت فيه كلمة الله، وبهذا يصير الإنسان كاملاً إذا ثبت في المسيح الكامل. لذلك نجد كاتب المزمور يترجى وجه الله في اتضاع شديد ” ليت طرقي تثبت في حفظ فرائضك “.
وهو أيضا ممتن لقبوله ناموس الله ومعرفته به “أحمدك باستقامة قلب معلمي احكام عدلك”، ويتمسك جدا بكلمة الله ” لا تتركني إلي الغاية “، أي لا تتركني إلي أن أحفظ وصاياك، إذ أنها عطية وبركة كبيرة أن يحفظ كلمة الله.
لكي نفهم قيمة الناموس أو شريعة الله أو أقوال الله بالنسبة لليهودي، نستطيع أن نري هذا المفهوم في كتاب مشهور (فصول من الآباء)، هذا كتاب يهودي يحمل تعليم أو تقليد خاص بالديانة اليهودية، فيقول في جزء من الكتاب “أن الناموس هو ممثل الحضور الإلهي”. فإذا جلس اثنان يدرسوا أو يتحدثوا في الناموس، فهناك يكون الحضور الإلهي أو بالتعبير اليهودي (الشاكيناه)، إذا كلمة الله او الوصية الإلهية تستحضر الله في هذا المكان، فإذا حفظ الإنسان كلمة الله في داخل قلبه يصبح الحضور الإلهي في قلب الإنسان. فهذا هو المعني الحاضر في فكر كاتب المزمور. لأنهم كانوا يظنون أن الحضور الإلهي في الهيكل فقط.
لكن هنا نري تطوراً في فكرهم أن الحضور الإلهي حاضر داخل قلب الإنسان، وهذا يستعلن في العهد الجديد بقوة، حيث أن الحضور الإلهي صار في قلب الإنسان بواسطة يسوع المسيح ابن الله الكلمة. فالمسيح هو الله الظاهر في الجسد، أو المسيح هو كلمة الله المتجسد (حضور إلهي في البشرية)، فالمسيح فتح لنا كلنا من خلال تجسده واتحاده بالطبيعة البشرية أن يكون هو حاضر فينا
(بِمَ يُزَكّي الشّابُّ طَرِيقَهُ؟ بِحِفْظِهِ إِيّاهُ حَسَبَ كَلاَمِكَ).
الإنسان يتبرر بحفظ الوصية، أي يعيش بحسب كلمة الله، فحفظ الوصية هنا ليس للتباهي وإنما في عصرنا الحالي أصبحنا حرفيين أكثر من الفهم، فأن نحيا بالوصية، ليس بحفظ الكلمة لكن المقصود هو الفهم. الله لا يريدنا أن نحفظ مثل الببغاء، ولكن يريدنا أن نحتفظ ونثبت ونغلق عليها داخل قلوبنا “خَبَأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْكَ”.
(بِكُلِّ قَلْبِي طَلَبْتُكَ. لاَ تُضِلّنِي عَنْ وَصَايَاكَ)
هنا كاتب المزمور يقول أنا سأخبأ كلمتك أو أثبتها في قلبي، أي قلبي (الباطن)، وليس بحسب الظاهر، أو الحفظ الظاهري. وهنا يحتاج القلب لحفظ الوصية أمرين في غاية الأهمية، هما:
1- استقامة القلب: “أَحْمَدُكَ بِاسْتِقَامَةِ قَلْبٍ” فالقلب النجس الملتوي لا يعرف أن يحتفظ بكلمة الله، وبقدر ما يترك أمور العالم، بقدر ما تثبت فيه كلمة الله.
2- التواضع: القلب المتواضع هو الذي يستطيع حفظ كلمة الله، إذ يضع نفسه تحت كلمة الله، ويتتلمذ لها “مُبَارَكٌ أَنْتَ يَا رَبُّ. عَلِّمْنِي فَرَائِضَكَ”، فمن يتمسك بفكره الشخصي لا يستطيع أن يتتلمذ لكلمة الله، ولا يقول له “علِمنــــي”، كما أن الكبرياء يُقسي القلب ويجعله لا يستوعب أمور الله.
فإذا توافرت هذه الصفات في القلب الذي يريد كلمة الله، تثبت كلمه الله في قلبه وتصبح له:
– مصدر فـــــرح: “بِطَرِيقِ شَهَادَاتِكَ فَرِحْتُ كَمَا عَلَى كُلِّ الْغِنَى”.
– مصدر لـــــذة: وليست عبء على الإنسان، بل يلهج بها نهاراً وليلاً “بِوَصَايَاكَ أَلْهَجُ، وَأُلاَحِظُ سُبُلَكَ. بِفَرَائِضِكَ أَتَلَذَّذُ. لاَ أَنْسَى كَلاَمَكَ”.
– مصدر نجـــاة: من الضيق فإذا وقع في عار أو معايرة من العدو، أي إبليس الذي يشتكي علينا بصغر النفس طوال الوقت، إذ يقنعنا إننا غير مقبولين عند الله أو الناس، “الْمُتَكَبِّرُونَ اسْتَهْزَأُوا بِي إِلَى الْغَايَةِ.” هنا تصير كلمه الله إجابة ورد على العدو وإفحامه “فَأُجَاوِبَ مُعَيِّرِي كَلِمَةً، لأَنّي اتّكَلْتُ عَلَى كَلاَمِكَ.” وكما يقول الكتاب: “قاوموا إبليس فيهرب منكم ” نقاومه بالكلمة، كما فعل المسيح نفسه في التجربة على الجبل وغلب الشيطان بالمكتوب، وكما وقف يسوع أمام ملوك ورئاسات مملكة الظلمة، نقف أمامهم ولا نخزى “وَأَتَكَلَّمُ بِشَهَادَاتِكَ قُدَّامَ مُلُوكٍ وَلاَ أَخْزَى”.
– مصدر تعزيـــــة: “هذِهِ هِيَ تَعْزِيَتِي فِي مَذَلّتِي، لأَنَّ قَوْلَكَ أَحْيَانِي”، فمع الوقت تتحول كلمة الله إلي جزء ثابت في كيان الإنسان، وليست فقط داخل القلب بل تخرج إلى اللسان ولا تفارقه، فنجد الإنسان يترنم ويلهج في كلمة الله، فتكون أغنية بالنسبة له. وهذا المزمور شهادة عن ذلك لأنه – أغنيـــة – “تَرْنِيمَاتٍ صَارَتْ لِي فَرَائِضُكَ فِي بَيْتِ غُرْبَتِي”. التسبيحات التي تؤخذ من الكتاب المقدس لها أثر عظيم علي الإنسان. هناك فجوة كبيرة بين الترنيمات التي تعبر عن حالات نفسية، وبين التي تُؤخذ من كلمة الله، فالأولى تُعطي شعوراً وقتياً بالسعادة وليس لها ثمر في كيان الإنسان، أما الثانية فعالة لأن كلمة الله هي روح وحياة، كلام يصنع تغييراً في حياة الإنسان وتسلمه حضور الله.
الناتج النهائي بعد هذا كله، أنه حتى لو كانت ظروف حياة الإنسان لا تتغير، فهو يحيا في رحب وفي رضى، ومهما كانت المشاكل لا ينهار ولا يفشل، لأن لديه شيء حقيقي في داخله، “وَأَتَمَشّى فِي رَحْبٍ، لأَنّي طَلَبْتُ وَصَايَاك”، ليست حياته طريق ضيق يمشي فيه، بل أن كلمة الله أصبحت مصدر حياة وتعزية ونجاة، فيمشي الإنسان في طريق رحب متسع. “فِي طَرِيقِ وَصَايَاكَ أَجْرِي، لأَنّكَ تُرَحّبُ قَلْبِي”، لكن إلى أي شيء يوسع الله قلبه؟ .. للحضور الإلهي.. الطريق هنا داخل القلب هو سكة تغيير داخلي، فيجده رحب “متسع” لأن الله معه، هذا هو “الحضور الإلهي” وهذه عملية من النمو المستمر بلا توقف ولذلك تنشأ لـــذة.
وعندما يدخل الإنسان في دورة من النمو، وبقدر ما يفتح الإنسان قلبه لله ولكلمته، بقدر ما يأخذ نمواً وازدياد أكثر، حتى من الشيوخ “أَكْثَرَ مِنَ الشّيُوخِ فَطِنْتُ، لأَنّي حَفِظْتُ وَصَايَاكَ” والشيوخ هنا هم المعلمون وليسوا كبار السن، لأن من يحفظ كلمة الله، وعيه ينمو ويزداد معرفة، وتكون أقواله وأفعاله بإرشاد الكلمة.