مايو 15, 2021 القيامة: أسس إيمانية

القيامة: أسس إيمانية

مقدمة:
لطالما كانت قيامة المسيح موضوع محوري في الفكر المسيحي. وبقدر ما تطورت المناقشات في هذا الموضوع، بقدر ما ظهر غموضه وعمقه الذي لا ينتهي. لكن الملاحظة المقلقة كانت أن الكثيرين قد افتقدوا إدراك الهدف الحقيقي من قيامة الرب له المجد. لذلك نجد أنه من الضروري أن نراجع بصفة مستمرة فحوى هذا السر العظيم الذي يتعلق به خلاصنا وخلاص العالم كله، بل الإيمان المسيحي نفسه، كما يقول الرسول: “إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ” (1كو 15:14). وفى تأملنا لهذا الموضوع نقدم بعض الأسس الإيمانية عن القيامة والتي تضمن، بقدر الإستطاعة، إجلاء الحقيقة، ومن ثَم تكون هناك فرصة للإنسان أن يعكس فحوى القيامة على حياته الشخصية اليومية.
الطريق إلى القيامة:
في تأملنا لموضوع قيامة الرب يجب أن نبدأ أولاً بتحديد موقع القيامة في عملية تدبير الخلاص الإلهي. فتدبير الخلاص يبدأ من الغرض الإلهي بإحضار الخليقة للوجود من العدم بهدف إدخالها في شركة حياته. ثم يأتي السقوط كانحراف عن الغرض الذي وُجدت لأجله الخليقة. وأصبح الهدف الأساسي للتدبير الإلهي هو استعادة الإنسان إلى الشركة مع الله. لذا حَمَّلَ الله أولاً الأنبياء بالرسائل والأحكام والوصايا والشهادات الإلهية إلى الإنسان. وأخيرا كما يقول الرسول في رسالة العبرانيين، كلمنا الله في الأزمنة الأخيرة “في ابنه”، كلمة الله القدوس. لذا تَجسد الكلمة متحداً بالبشرية الساقطة والمنفصلة عن الحياة الإلهية. ثم قام الرب يسوع المسيح بعلاج البشرية، وبالتالي الخليقة ككل، بأدوية الخلاص، وذلك كالتالي. قبوله الروح القدس في معموديته بنهر الأردن، وغلبته في تجربة الشيطان على الجبل، ثم قبوله للآلام والصلب والموت، وأخيراً القبر- أي نزوله إلى مثوى الأموات- الذي هو أيضا الجحيم. فالقيامة من الموت لا يمكن أن تتحقق إلا إذا سبقها موت حقيقي.

القيامة هي غلبة الموت:
بعد أن ساد الفساد والموت في الكيان البشري، نفساً وجسداً، وذلك بسقوط آدم، عمل الله على إحياء الإنسان مرة أخرى. حيث أن انفصال الإنسان عن الشركة الإلهية بكسر الوصية- أي التعدي، حَرم الإنسان من مصدر الحياة الحقيقي أي الثالوث القدوس.
فإذا كان البشر يعيشون على هذه الأرض، ويمارسون بعض الأنشطة اليومية من مأكل وحركة وعلاقات إجتماعية، فهذا ليس معناه أنهم أحياء بالحقيقة. فالحياة الحقيقية هي الحياة الإلهية، أي الحياة التي بحسب الله، ومع الله. والحقيقة أن البشر أموات روحياً، وقد أظلمت نفوسهم، وصار الموت يعمل في جسدهم بالتدهور التدريجي من شيخوخة وأمراض حتى الوصول للانحلال التام بانفصال النفس عن الجسد، فيوارى الإنسان الثرى.
ولكي تتضح الصورة أكثر عن حقيقة القيامة كغلبة للموت، نأخذ قيامة لعازر مثالاً. فقيامة لعازر من الموت تختلف تماماً عن قيامة الرب. لقد قام لعازر من الموت لكي يعود إلى حياته السابقة المعتادة، والتي من الممكن أن ندعوها حياة يسودها الموت. نعم، فلقد مات لعازر مرة أخرى، وربما يكون قد أصابه المرض أكثر من مرة بين الموتين. إن إحياء لعازر هو شبه قيامة، أو مثال لقيامة المسيح، لكن الفارق كبير بين المثال وحقيقته. فقيامة المسيح هي قيامة بطبيعة مجددة لا تعرف الموت. لقد أقامنا المسيح بقيامته إلى حياة حقيقية فيها اتحاد بمصدر الحياة الحقيقي، أي الأبدي والذي هو الله. أما الطبيعة القديمة الميتة فقد ماتت أي لا توجد فيما بعد.

وهذا ما يعبر عنه القديس بولس قائلا: “وَمَتَى لَبِسَ هَذَا الْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ وَلَبِسَ هَذَا الْمَائِتُ عَدَمَ مَوْتٍ فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ: «ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ»” (1كو 15: 54).
إذاً فقيامة المسيح ليست مماثلة لتلك الأساطير القديمة أو قصص الأبطال الخارقين المعاصرة، والتي تتمحور حول شخصيات تحافظ على نمط وجودها ثابتاً دون تغيير، والعودة إلى ما كانت عليه سابقاً من بعد الموت. بل بالحقيقة إن قيامة المسيح هي عملية تغيير أو تحول أو نقل، بل بالأحرى هي “خلقة جديدة” للطبيعة البشرية. نفهم هذا من مثل الفخاري إذ يقول “فَنَزَلْتُ إِلَى بَيْتِ الْفَخّارِيِّ وَإِذَا هُوَ يَصْنَعُ عَمَلاً عَلَى الدُّولاَبِ. فَفَسَدَ الْوِعَاءُ الّذِي كَانَ يَصْنَعُهُ مِنَ الطّينِ بِيَدِ الْفَخّارِيِّ فَعَادَ وَعَمِلَهُ وِعَاءً آخَرَ كَمَا حَسُنَ فِي عَيْنَيِ الْفَخَّارِيِّ أَنْ يَصْنَعَهُ.” (إر 18: 3، 4). وأيضا يتأكد ذلك من الممارسة الكنسية في سر الإفخارستيا، إذ نصلي في أوشية التقدمة عن القرابين: “باركهما، قدسهما، طهرهما وإنقلهما (حولهما).” وهنا ينبغي أن ننتبه أن هذه الطلبة وما يليها في كل صلوات القداس الإلهي تهدف إلى أن ننتفع نحن أعضاء جسد المسيح بما يتم في هذه القرابين وذلك عند إتحادنا بها. وهذا الترابط بين القرابين وبين المؤمنين، تعبر عنه بوضوح صلاة القسمة للقديس كيرلس والتي تقول: “عند استحالة الخبز والخمر إلى جسدك ودمك تتحول نفوسنا إلى مشاركة مجدك وتتحد نفوسنا بألوهيتك، أخلق فينا يا ربنا وإلهنا قلبًا طاهرًا وأَسْكن روحك في باطننا”. هكذا تنكشف حقيقة القيامة كعملية تحول كياني من الموت إلى الحياة الأبدية، وذلك إنطلاقاً من اتحاد الرب يسوع بنا. فالقيامة هي مثل تحول دودة القز في الشرنقة إلى فراشة، هكذا يعبر الكاتب فرانسوا فاريون عن رؤيته للقيامة: الدودة هي الفراشة، لم تصر كائن أخر، ولكنها ودعت نظام حياتها القديم واستقبلت نظام حياة جديدة بواسطة عملية تشابه الموت والدخول إلى القبر.
إذاً فالقيامة هي نصرة وغلبة على الموت تممها المسيح ويهديها لجسده، أي الكنيسة، لذا تهتف الكنيسة “أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟” (1كو 15: 55). ونلاحظ هنا أن شوكة الموت هي الخطية، فلولا العصيان لما عرفت البشرية الموت.
القيامة محبة أبدية:
“الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ” (نش 8: 6) هكذا توضح لنا عروس النشيد. فالقوة ليست للموت وحده، بل المحبة أقوى. فعندما يقدم أحدهم المحبة للأخر، فذلك يعني أنه يقدم له ما يخدم حياته. ولكن ما يُقدم هنا هو محدود بمحدودية القدرة البشرية. أما محبة الله فهي محبة أبدية أي من الأبدي والذي هو الله الذي لا يعرف الموت، فكيف يكون الحال بين الثالوث. إن المحبة الإلهية بين الثالوث لا يشوبها موت الأنانية، بل هي تقديم الواحد نفسه خالصاً للأخرين. لذلك يقول المسيح “لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الاِبْنَ… لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ كَذَلِكَ أَعْطَى الاِبْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ” (يو 5: 20، 26).
وبالتالي فإن كان الله الأبدي يقول إنه يحبنا، فهو بذلك يعطينا قُبلة الحياة الأبدية. “مَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ” (إر 31: 3)، فالمحبة الأبدية تعني إحياءنا إلى الأبد، لأنه صار لنا ارتباط بالله الأبدي “وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ” (رؤ 21: 4). وهذا يتحقق لنا بموت المسيح، الذي وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى” (يو 13: 1). الحب هنا هو حتى الموت إذ “لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ” (يو 15: 13). أنه موت محيي لأنه ملآن محبة هي قوت الحياة، ومن يقبلها يحيا بها. ومرة أخرى تكشف لنا الإفخارستيا عن سر موت الرب وقيامته، فمن يتحد بالمسيح القائم من الأموات ينال حياة أبدية غالبة للموت والخطية. “يعطى عنا خلاصا وغفرانا للخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه” فمن يدخل في سر الحب الإلهي ينتقل من الموت إلى الحياة.
القيامة هي ولادة للبنين
من بعد قيامة المسيح صار هناك وضع جديد للبشرية في علاقتها الكيانية بالآب. ذلك يستعلنه المسيح في تغير لغته من نحو الكنيسة قائلا للمجدلية: “اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ»” (يو 20: 17). لقد ولدنا الله في موت المسيح وقيامته لنصير إخوة للمسيح وأبناء للآب. ليس من جهة الكرامة أو بصورة معنوية أو أدبية فقط، لكن بالحقيقة. هكذا أعطى الله للبشر “سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ” (يو 1: 12)، لكل من يؤمن به.
القيامة تنطلق بالبشرية إلى السماء
كما ذكرنا سابقاً فإن القيامة لا تتجلى حقيقتها إلا من خلال ربطها بباقي خطوات عملية الخلاص. وهنا نربط بين القيامة كمؤهل للصعود. نجد أن المسيح لا يصعد إلى أبيه إلا من بعد القيامة، ليس وكأنه متغرب عن السماء، بل لأجلنا يفعل ذلك. ففي قيامة الرب وصعوده تكون البشرية معه، فالآب “أَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ” (أف2: 6). فكان من غير الممكن أن يكون للبشر شركة في حياة الله قبل أن ينزع منهم كل موت، لإن “لَحْماً وَدَماً لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يَرِثَا مَلَكُوتَ اللهِ وَلاَ يَرِثُ الْفَسَادُ عَدَمَ الْفَسَادِ” (1كو 15: 50)، ولا يكون لهم مكاناً في محضره القدوس قبل أن يكون لهم رابط كياني به من خلال بنوة الابن الوحيد. هكذا يصل الإنسان إلى بر الأمان أي ملكوت السموات.

اترك رد