وَفِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ إِلَى الْقَبْرِ بَاكِرًا، وَالظَّلاَمُ بَاق. فَنَظَرَتِ الْحَجَرَ مَرْفُوعًا عَنِ الْقَبْرِ. فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلْمِيذِ الآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ، وَقَالَتْ لَهُمَا:
“أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ.” (يوحنا 1:20)
ذكر القديس يوحنا مواقف كثيرة لنساء كان لهن دورهن القوي، منهن مريم أم يسوع، ومريم ومرثا أختا لعازر، والمرأة السامرية. والآن تظهر مريم المجدلية بأمانتها الداخلية وحبها الشديد ليسوع، إذ رافقته حتى الصليب والموت دون أي اعتبارات لما تواجهه من مصاعب.
إنه يوم السبت بعد ما يمر الليل ويأتي الشروق، حيث كان يحق لليهودي أن يبدأ بالتحرك. أما مريم لأنها تريد بأسرع وقت أن تُكرم جسد المسيح (بالتحنيط)، ذهبت إلى القبر والظلام باقٍ. وكانت بوابات المدينة لا تفتح قبل نور الصباح، فتقابلت المجدلية مع باقي المريمات عند البوابة وفي الأناجيل الأخرى يقول مع الفجر أو مع بداية الأحد.
كانت لهفة المريمات واضحة عندما بدأن يتجمعن بمجرد فتح أبواب المدينة والظلام باقٍ، وهن مريم المجدلية، ومريم أخت العذراء (أم يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان)، وسالومه (أم يوحنا ويعقوب أبني زبدي) ويونه زوجة وكيل هيرودس. وهناك كانت الصدمة… إذ وجدن الحجر مزحزحاً والأختام مكسورة ووجدن ملاكاً يجلس على الحجر ويقول لهن: (لماذا تطلبن الحي بين الأموات).
“وَإِذْ كُنَّ خَائِفَاتٍ وَمُنَكِّسَاتٍ وُجُوهَهُنَّ إِلَى الأَرْضِ، قَالاَ لَهُنَّ: «لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟”
لَيْسَ هُوَ ههُنَا، لكِنَّهُ قَامَ! اُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي الْجَلِيلِ قَائِلًا: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ، وَيُصْلَبَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». (لوقا24: 5-6).
فانطلقن مسرعات إلى التلاميذ بعد هذه الصدمة؛ ليخبروهم أن القبر مفتوح وأنهن لم يجدن جسد يسوع، قائلات: «أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!». (يو20: 2)
فلما سمع التلميذين بطرس ويوحنا هذا الخبر إنزعجا جداً وانطلقا مسرعين إلى القبر، فسبق يوحنا بطرس وانحنى إلى القبر[1] لينظر. “وَكَانَ الاثْنَانِ يَرْكُضَانِ مَعًا. فَسَبَقَ التِّلْمِيذُ الآخَرُ بُطْرُسَ وَجَاءَ أَوَّلًا إِلَى الْقَبْرِ”، “وَانْحَنَى فَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَلكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ”.
ثم دخل التلميذ الأخر بطرس، ورأى فآمن أن المسيح قام كما قال. ثم رجع التلميذان إلى مكانهما حيث كانوا مقيمين. “فَمَضَى التِّلْمِيذَانِ أَيْضًا إِلَى مَوْضِعِهِمَا”. (يو20: 10).
وأما مريم المجدلية فظلت واقفة عند القبر تبكي، كانت تقف مكسورة القلب وحزينة، ولن ترتاح إلا إذا وجدت سيدها حتى ولو ميتاً، ولن تذهب لمكان آخر غير القبر حتى ولو كان فارغاً.
“أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ وَاقِفَةً عِنْدَ الْقَبْرِ خَارِجًا تَبْكِي”. (يو20: 11).
ظنت مريم أن بإستنجادها للتلميذين سوف يساعدها لتجد يسوع، ولكنهم ذهبوا وتركوها وحدها. فرجعت فإنحت مرة أخرى إلى القبر لتنظر، فرأت ملاكين آخرين حيث كان جسد يسوع، فسألاها: لماذا تبكين؟!، فقالت لهما: أخذوا سيدي، ولستُ أعلم أين وضعوه.
“وَفِيمَا هِيَ تَبْكِي انْحَنَتْ إِلَى القبر فنظرت مَلاَكَيْنِ بِثِيَابٍ بِيضٍ جَالِسَيْنِ وَاحِدًا عِنْدَ الرَّأْسِ وَالآخَرَ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ، حَيْثُ كَانَ جَسَدُ يَسُوعَ مَوْضُوعًا. فَقَالاَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟» قَالَتْ لَهُمَا: «إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي، وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!».
ثم إلتفتت مريم ورائها فنظرت يسوع واقفاً ولكنها لا تعلم أنه هو… ويبدو أن الملاكين وهم جالسين داخل القبر رأوا يسوع خارجاً وراء المجدلية، فجعلاها تلتفت إلى الوراء.
“وَلَمَّا قَالَتْ هذَا الْتَفَتَتْ إِلَى الْوَرَاءِ، فَنَظَرَتْ يَسُوعَ وَاقِفًا، وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَسُوعُ” (يو20: 14).
الاشتياق القوى جداً يطغي على الخوف، والتفاصيل، والظروف، والأشياء الغير منطقية وحتى على أي تعب جسدي.
فالقبر كان قريباً جداً من الجلجثة أي خارج المدينة بمسافة طويلة والمسيح نفسه أنهك عندما مشى من دار الولاية إلى الجلجثة لكن المجدلية قطعت هذه المسافة مرتين.
وعندما سألها الملاك عن سبب بكائها، ومن تطلب، قالت له: «إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي، وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!» … أي إن كنت تعرف أين هو اخبرني وأنا آخذه. «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُهُ». (يو20: 15).
خاطبها يسوع مخاطبة شخصية بالاسم وبالطريقة التي اعتاد أن يحدثها بها وناداها باسمها «يَا مَرْيَمُ» وهذه الكلمة التي تخرج من فمه ليست مجرد كلمة بشرية أو نداء عادي، ولكنها كلمة تمتلئ بالحياة، كما نادى لعازر … فنبه روحها فأبصرت نور القيامة، كانت الكلمة كافية جداً بالنسبة لها بدون أن يقول إنه هو يسوع، فعرفت انه هو وأجابته: «رَبُّونِي!» الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ
يسوع في مقابلته لمريم يُعلن لها بشارة مهمة جداً، ويصنع معها عمل شفاء بأن فتح بصيرتها الروحية المغلقة، لأن المسيح قائم بطبيعة جديدة وهو نفسه ابن الله المتجسد، لكن مجد الطبيعة الجديدة القائم يجعل الإنسان غير معتاد شكلها، حتى ولو كان يعرف هذا الشخص. فهو يشعر أن به شيئاً متغيراً، وهذا ما حدث مع المجدلية عندما رأت يسوع الذي عاشت معه أكثر من ثلاثة سنوات إلا إنها لم تتعرف عليه، والسبب أن المسيح قام بطبيعة جديدة لم يكن منظره متغيراً كثيراً، لكن المجد والبهاء في الطبيعة الجديدة يجعل الإنسان الطبيعي لا يستوعبها أو يتعرف عليها بسهولة.
مريم كانت لا تزال بطبيعتها القديمة فأعينها الروحية لا تزال مغلقة، رأت المسيح كشخص عادي، ولم تستطع أن تتعرف عليه في الكيان الجديد القائم به. المسيح نفسه قال لتلاميذه أكثر من مرة عما سيحدث له، لكنهم لم يكونوا يفهمون الكتب، كما أن حدث القيامة كان يفوق الفكر البشري ويتطلب إعلاناً إلهياً.
ونحن في نفس وضع التلاميذ أيضاً نحتاج إلى إنفتاح البصيرة الروحية، وأن نستلم ثمار العمل الخلاصي الذي عمله المسيح. هذا هو ما يفعله الإيمان الحقيقي في قلب الإنسان. فالكثير منا يؤمن بالقيامة كمعتقد مثله مثل باقي مبادئ الحياة، لكن هل القناعة بقيامة المسيح تعمل في كياني لتمنحني حياة أبدية.
إن المسيح في قيامته يشفي الإنسان من الفساد المولود به والموت السائد عليه، فلا ذنب عند المجدلية إنها لم تتعرف على المسيح، فالخطية وإهتمامات العالم تُشوش بصيرة الإنسان، والطبيعة العتيقة الفاسدة لا مفر منها وتتطلب علاج، وهذا العلاج عند المسيح بالطبيعة الجديدة التي قام بها ويريد أن يمنحنا إياها.
لقد كان إشتياق مريم هو السبب الرئيسي لتلك المقابلة المبهرة، فالمسيح عّين إثنا عشر تلميذاً، وسبعين رسولا لكي يرسلهم للعالم، ويعلنوا البشارة، لكن مريم يقول عنها التقليد وكتابات الآباء إنها-رسولة الرسل- هي من أخذت الخبر الرئيسي الأول وأعلنته للرسل ومنهم لباقي العالم.
بعد قيامة المسيح أصبحنا أبناء لله الآب، وأخوة للمسيح. “اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ».
وهذه الكلمة تستعلن بعد جديد في علاقة المسيح بالتلاميذ، فهو هنا يرفع التلاميذ لمستوى الأخوة.. فهو ابن منذ الأزل وبالطبيعة، واليوم يدعوا آخرين لكي يشاركوه بنوته للآب. “أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ“.
وبهذا تكلم الرسل في رسائلهم التي كتبوها: إنه كان المسيح سيرث، فنحن سنرث معه، وكونه سيملك فسنملك معه، وكونه سيتمجد فنحن سنشاركه مجده، وأننا في مجيئه الثاني سنكون مثله. هذا كله نتاج وثمر وعطايا حصدها لنا المسيح بقيامته.
إن إشتياق المجدلية يُمثل خبرة روحية وتدريب قوي يجدر بنا أن نعيشه، إنها دعوة لنا لنفتش ونبحث عن هذا الإشتياق. علينا ان نسعى إليه مبكرين، علينا أن نأخذه ونحمله في داخلنا، فيسكن فينا بغنى ويستريح فينا، ويجعلنا شركاء له في الألم والمجد.
فمن يبحث عن الله، سيجده الله.
[1] القبر غرفة محفورة في الجبل أو غرفتين متصلتين ببعضهما، يكون القبر منخفضا لأسفل وبابه في طرفها، ولكي تنظر باقي الغرفة يجب أن تنظر تجاه اليمين، وفي الجزء الداخلي يكون هناك لوح أو أكثر من الحجر الجيري يوضع عليه جسد الميت.