نوفمبر 4, 2012 تقديسنا في المسيح وإتحادنا بالله

تقديسنا في المسيح وإتحادنا بالله

تقديسنا في المسيح وإتحادنا بالله

     إن مفهوم تقديس الإنسان والإتحاد بالله الذي يقصده الآباء لا يعني على الإطلاق تحول الطبيعة البشرية إلى طبيعة إلهية ، ولكن المعنى هو: تأهيل الطبيعة البشرية للحياة مع الله في شركة المحبة،  وذلك برفع الحاجز الخطير الذي يفصل حياة الإنسان عن حياة الله، أي رفع سلطان الخطية أولاً وتطهير القلب وغسل الضمير ورفع كل شكاية والتخلص النهائي من سلطان الموت ، وذلك بتوسط غسل وتقديس دم المسيح لنا وبتناولنا جسده الذي هو لنا خلاصاً وغفراناً للخطايا وحياة أبدية .

     لذلك فالاتحاد بالله بمفهومه الكامل كحياة مع الله، لايُمكن أن يتحقق إلا بالقيامة من الأموات وتمجيد هذا الجسد يوم إستعلان ربنا يسوع [ نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا ] (رو 8: 23)، ولكن لأنه أُعطى لنا منذ الآن سر النعمة في أسرار ووصايا وقوة إلهية لكي نغلب بها الخطية، هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة [ كما أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة . اللذين بهما قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة ] (2بط1 : 3 – 4)، لذلك فقد إنفتح أمام الإنسان – التائب المؤمن بالمسيح – باب إمكانية تذوق الإتحاد بالله بشركة المحبة والطاعة منذ الآن [ إلبسوا الرب يسوع المسيح و لا تصنعوا تدبيرا للجسد لأجل الشهوات ] (رو 13: 14)،  [ كأولاد الطاعة لا تشاكلوا شهواتكم السابقة في جهالتكم ] (1بط 1 : 14).

        عموماً، فالله بإتحاده بطبعنا الإنساني في تجسده ، لم يُغير ذاته كما أنه لم يُغير بشريتنا من جهة أننا بشر، بل قدم ذاته نعمة وهبة لبشريتنا الضعيفة ورفعها إلى أعلى مستوى، أي ألبسنا ذاته ، أي قدس بشريتنا وجعلها إناء مخصص لشخصه كمقرّ لسكناه الخاص والشخصي [ العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي كما يقول النبي ] (أع 7: 48)،  [ أما تعلمون إنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم ] (1كو 3 : 16)، فمنحنا نعمة خاصة ومقدرة على أن نحب من محبته ونحيا من حياته، لذلك قال: [ أحبوا أعدائكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين و يمطر على الأبرار والظالمين ] (مت5)، ومن يقدر على هذه المحبة إن لم يكن طبعه سماوي، أي أنه دخل في شركة مع الله في المسيح الكلمة المتجسد فتطبع بطبعه السماوي ونال منه هذه المحبة [ لأن محبة الله قد إنسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا ]  (رو 5: 5).


         بنعمة التقديس ننال طبعاً جديداً فيُتاح لنا أن نُفكر على مثال الله [ لأنه من عرف فكر الرب فيُعلمه وأما نحن فلنا فكر المسيح ] (1كو 2: 16)، ونحب ونعمل كل شيء على مثال المسيح الله الكلمة المتجسد  لأننا به نحيا و نتحرك و نوجد . فلا توجد خليقة ما تستطيع بقوتها الذاتية والشخصية أن تُفكر وتحب أو تعمل على المستوى الخاص بالله إطلاقاً. ولكن الله بمجيئه إلينا وإتخاذه طبيعتنا وإتحاده الخاص بنا منحنا المقدرة على أن نُفكر كما يفكر هو فأصبح  لنا فكر المسيح، وصرنا نُحب كما يُحب هو، لذلك نستطيع أن نفهم بوضوح قول الرسول: [ فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحباء. وأسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا قُرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة ] (أفسس5: 1 ، 2)
         

         فهكذا أعطانا المسيح الله الكلمة المتجسد أن نُفكر ونُحب ونكون حقاً على مثاله (كونوا متمثلين بالله ، فنصير واحداً معهُ في الفكروالقلب). 

        ويقول القديس كيرلس الكبير:  حتى كما أن الله نفسه محبة وفرح وسلام وإحسان  صلاح  كذلك  تكون النفس في الإنسان الجديد بالنعمة . (حياة الصلاة ص199: 283)
        

         ويقول القديس أغسطينوس:  ما هذا الذي يومض في أحشائي ويقرع قلبي دون أن يؤلمني؟  فأرتجف بقدر ما أرى نفسي أني لست أُشبهه،  وأطمئن بالقدر الذي فيه أرى نفسي أُشابهه!،  أنها الحكمة هي التي تومض في أحشائي . (حياة الصلاةص198: 279)
        

         ويُعبر القديس أثناسيوس الرسولي أروع تعبير على الوحدة مع الله وسبب مشابهته قائلاً: أن الله قد أتى إلينا ليحمل جسدنا، فيُتاح لنا أن نصير نحن حاملي الروح .
        

       في التجسد إتسمت بشريتنا بسمات الله وإرتدت إنسانيتنا بهاء الله وصرنا بكل ما لنا جواً إلهياً يحيا فيه الله، وعندما نُقدم ذواتنا للمسيح تقدمة حُرة تامة ونقبل نهج حياته، يتحقق إتحادنا التام به ويصير التقديس فاعلاً فينا فنصير على مثاله حقاً.
     

       ويقول القديس مقاريوس الكبير:  إن كانت النفس تُخصص ذاتها للرب، وتتمسك به وحده،  وتسير بوصاياه ،  وتعطي روح المسيح حقها،  إذا هي أتت عليها وظللتها، حينئذٍ تُحسب أهلاً لتصير روحاً واحداً وتركيباً واحداً معهُ، كما نص على ذلك الرسول : ” وأما من التصق بالرب فهو روح واحد ” (1كو6: 17)  (حياة الصلاة ص200: 286)
         

         ولا بد لنا أن نعلم يقيناً،  إن الحياة الإلهية هي النعمة التي ترفعنا لهذا المستوى من التقديس والتخصيص لنتطبع بالطبع الإلهي،  لأن الله هو من يعطينا ذاته ويهبنا هذه الشركة والمماثلة، دون أن نخرج عن إنسانيتنا إطلاقاً،  فنحن سنبقى في شركة مع الله دون أن يقع خلط بين طبيعة الله وطبيعتنا الإنسانية التي تقدست في المسيح الرب،  فدعوتنا أن نصير شركاء الطبيعة الإلهية وليس أن نكون آلهة بالطبيعة أو نتحول للاهوت لأن هذا مستحيل إستحالة مطلقة لا نقاش فيها إطلاقاً!!!
 

         عموماً الله القدوس هو من سكب فينا حياته وأعطانا روحه الخاص لنصير معهُ في أُلفة المحبة وفي حالة اتحاد سري في المسيح لنا أن نتذوقه ونعيشه كخبرة في حياتنا ولا نستطيع أن نُعَبَّر عن هذه الوحدة السرية في كمالها الإلهي لأنها سرّ عظيم يفوق كل إدراكنا ،لنا فقط  أن ندخله  بالإيمان وفي سر الإفخارستيا العظيم
           

        إذن الإنسان شريك الطبيعة الإلهية لا بالطبيعة، لأنه بالطبيعة إنسان وسيظل إنسان، فوحدتنا مع الله وشركتنا معه لا تُغير من جوهر طبيعتنا البشرية على الإطلاق، فنحن ننال هذه الشركة ونحياها بواسطة  وفي يسوع المسيح المتحد بجسم بشريتنا بغير إختلاط  ولا إمتزاج  ولاتغيير.

 

 

 

5 thoughts on “تقديسنا في المسيح وإتحادنا بالله

  1. كيف احيا هذه الحياة …هل مجرد قبولى بهذا الفكر انال هذه العطية ….واذ قبلت هذه العطية ما الذى يترتب على هذا فيما يختص بعلاقتى بالله اقصد قبولى وايمانى بأن طبيعتى البشرية متحدة بالطبيعة الالهي
    فطبيعتى البشرية تعوق علاقتى بالله …فتحرمنى من المواهب الالهية وكل ما يختص بالصفات الالهية
    اعنى انه من المفروض ان هذا الاتحاد وشركة الطبيعة الالهية تمنحنى بسهولة هذه العطايا المجانية ايضا
    فلماذا اجد صعوبة فى نوال هذه الصفات الالهية والمواهب ما دام هناك اتحاد وشركة بهذا الشكل الذى لا يصدقه عقل

    1. بالطبع لا يكفي مجرد المعرفة العقلية و القبول الفكري لنوال العطايا الإلهية و التي منها بكل تأكيد الخلاص، بل اللازم هو الإيمان و الخضوع و الطاعة للمشيئة الإلهية
      لأن الخلاص و تقديس الطبيعة البشرية هو اساسا عمل إلهي في الطبيعة البشرية و هذا العمل لا ينتهي خلال حياة الإنسان كلها ، و علي قدر قبول الانسان لهذا العمل الإلهي علي قدر ما ينمو الإنسان في العلاقة مع الله و القداسة.
      الطبيعة البشرية ليست عائقا للعلاقة مع الله بل يقول الله ان ” لذتي في بني ادم ” . لكن الفساد الساكن في البشر هو العائق مادام الانسان متمسك به ،
      لكن رجائنا و ايماننا ان ابن الله الكلمة بتجسده و اتحاده بالطبيعة البشرية قضي علي هذا الفساد و من خلال عمله هذا ( اي التجسد ) فتح الباب امام كل انسان لنوال الخلاص بالاتحاد بالله المؤسس في بشرية يسوع المسيح من خلال الايمان به اتيا في الجسد .
      كما قلت فهذه الرحلة اي الوصول لله هي رحلة الحياة كلها ، يقوم الله خلالها بتشكيلي و تنقيتي، و الصعوبة ليست في استقبال العطية بل في أن يكون عندي الايمان الحقيقي بعمل الله و ثقتي في انه يريد
      ان يمنحني هذا الاتحاد، ايضا يجاهد الانسان في الخضوع لله كي يشكل فيه و التغلب علي محبة العالم .
      و التأكيد علي ان هذه هي مشيئة الله هي صلاة يسوع في يوحنا 17 :
      قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌ.
      18 كَمَا أَرْسَلْتَنِي إِلَى الْعَالَمِ أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى الْعَالَمِ،
      19 وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا مُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ.
      20 «وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلاَمِهِمْ،
      21 لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي.
      22 وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ.
      23 أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي.

  2. اية ٢٢ تفهم اكثر عندما نكمل قرأة ٢٣ و هو ان الله في ثالوثه الأقدس يحيا في شركة عجيبة فائقة الوصف ، حيث لا وجود للحياة المحصورة في ذاتها بل كل اقنوم يحيا من خلال الاخر ، لا نقدر ان نلم بكل ابعاد هذا الوجود المشترك لكن ما ندركه هو ان طبيعة هذا الوجود هو قمة المجد و القداسة و المحبة و الفرح و ان الله دعا البشرية من قبل ان يخلقها الي هذا المجد من خلال ان توجد في هذه الشركة و للتاكيد نقرأ الاعداد القادمة :
    ١- كَمَا أَرْسَلَنِي ٱلْآبُ ٱلْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِٱلْآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي. (إيُوحَنَّا 6:57 AVD)
    الابن يحيا بالاب و يدعونا الابن كي نحيا به من خلال اكله(جسده) اي الاتحاد بكيانه
    ٢- ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضًا شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ ٱلْآبِ وَمَعَ ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ . وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هَذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلًا . (يُوحَنَّا ٱلْأُولَى 1:3, 4 AVD)
    هذا هو هدف وجود الانسان و هو الفرح الكامل او السعادة الابدية

اترك رد