عنصر العلاقة الشخصية بالمسيح يشكِّل في الإيمان المسيحي أعظم وأخطر الأركان التي تقوم عليها حياة الإنسان في المسيح يسوع.
لأنه إما ينحصر الإيمان في المدارك العقلية ليبقى المسيح شخصية أخرى يقترب منها العقل وقتما يشاء ويتأمل ويناظر ويصف ويتحدث عن شخص اسمه يسوع المسيح، حتى ولو بلغ أنه هو ابن الله، والله ظهر في الجسد، وأنه المخلِّص والفادي، ولكن كل ذلك من مدارك العقل والحفظ والاستذكار؛ وإما يكون الإيمان عن شهادة الروح والإحساس بالانطباع الكياني الذي أنشأه المسيح في الإنسان الجديد الجواني عن الابن الوحيد المحبوب وحيد الآب، الذي طبع بصمات جروحه على الصليب في هيكل جسدنا الجديد ووهبه روح قيامته، فصار للمسيح وجود وكيان مذبوح حيٌّ قائم من بين الأموات في أغوار خلقتنا الجديدة، التي عنها صرخ القديس بولس بإحساس يقيني وشهادة صدق علنية، لنوع الاتحاد السرِّي الذي دخل به الرب الروح في حياة القديس بولس ليقول: “فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ “(غل 20:2)، توثيقاً لشهادة المسيح الإلهية الصادقة: ” أنتم فيَّ وأنا فيكم “(يو 20:14)، “اثبتوا فيَّ وأنا فيكم.”(يو 4:15)
هذا هو واقع إيمان الروح وليس العقل المدرِك لماهية ابن الله. فالإيمان
بالمسيح يكون على درجتين:
الأولى: الدرجة الإنسانية العقلانية الذكية الفاهمة لماهية الرب الإله التي يمكن أن نكتب عنها الكتب ونتكلَّم ونتحدث باستفاضة عن كيان إلهي آخر نراه من بعيد ونحكي عنه.
والثانية: الدرجة الروحانية التي عن وعي الروح ترى الرب الروح وتحسُّه، لا إحساس الآخر، ولكن الإحساس الذي يتلاشى فيه “الأنا” أي الذات، فمنه هو أستمد إحساسي بذاتي، إذ لا وجود لي شإلاَّ به وفيه: ” الذي من أجله خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح، وأُوجد فيه “(في 8:3و9). واضح من كلام القديس بولس أنه خسر كل الأشياء ولم يبقَ له شيء إلاَّ المسيح! هذا الذي ملأ كيانه ووجدانه، فلم يَعُدْ يفكِّر أو يحس بشيء إلاَّ في المسيح. هنا إيمان القديس بولس بالمسيح جعل المسيح كل شيء للقديس بولس حتى نفسه.
هذا الإدراك الروحي الواعي بشخص المسيح المالئ الكل لا يمكن أن يدركه العقل على الإطلاق، لأن العقل يدرك الآخر ولا يدرك نفسه، والإيمان الروحي بالمسيح جعل المسيح هو نفسي، لم أعُدْ آخر للمسيح ولا المسيح عاد آخر بالنسبة لي: ” وأما مَنْ التصق بالرب فهو روح واحد “(1كو 17:6)، وبالتالي: “مَنْ سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عُرْي، أم خطر أم سيف؟… إني متيقِّن أنه لا موت ولا حياة… تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع.” (رو 35:8–39)
فالمسيح هو الكل الذي يملأ الكل: “الكل في الكل ” (أف 23:1)، ولا يستطيع إنسان فرد أن يستوعبه إلاَّ بقدر ما يملأه، ويستحيل أن يستوعبه أحد مهما بلغ من الإيمان به إلاَّ بقدر ما يشترك فيه ويتَّحد.
فالمسيح يستعلن نفسه لي بقدر ما يسعه إيماني وتدركه روحي. وخارجاً عن نفسي وعن روحي لا أدرك المسيح إلاَّ بعقلي باعتباره آخر. وفرق بين أن يستعلن المسيح نفسه لي، وأن أدركه أنا بعقلي. فما يستعلنه المسيح من نفسه لي هو حصيلة إيماني واتحاده بي بنعمته. أما إدراكي أنا للمسيح بعقلي فلا علاقة له بإيماني ولا يوصِّلني إلى الاتحاد به، بل يظل خارجاً عني إلى أن أقبله بإيماني فيستعلن نفسه لي، وباستعلان الروح أدركه.
إذن، أصبح الإيمان بالمسيح هو حقيقة صلتي بالمسيح وصلة المسيح بي. فالثبوت في المسيح وثبوت المسيح فيَّ المعبَّر عنه بالاتحاد بالمسيح الذي هو الشركة المقدسة بالروح والحياة في المسيح، هو معيار الإيمان الصحيح والعملي: “أما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح.” (1يو 3:1)
هنا معرفة المسيح والإيمان به هي معرفة ذاتية وليست فكرية: “لأنكم إن لم تؤمنوا أني “أنا هو” تموتون في خطاياكم” (يو 24:8). هنا الإيمان بالمسيح إيمان بذاته أنه “الكائن بذاته”، وهو لقب يهوه في القديم. والإيمان بذات المسيح لا يأتي بالمعرفة العقلية، بل بقبوله الشخصي باعتباره أنه هو حياتنا الجديدة، حياتنا الحقيقية، التي كانت مخفية عند الآب وأُظْهِرَت لنا بحسب خبرة القديس يوحنا الاستعلانية للمسيح الكلمة:
“الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة (المسيح). فإن الحياة أُظْهِرَت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية (المسيح) التي كانت عند الآب (“والكلمة كان عند الله” يو 1:1) وأُظْهِرَت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً.” (1يو 1:1–4)