وَأَمّا هُوَ فَشَخَصَ إِلَى السّمَاءِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ مِنَ الرّوحِ الْقُدُسِ،
فَرَأَى مَجْدَ اللهِ، وَيَسُوعَ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ الله.
فَقَالَ: هَا أَنَا أَنْظُرُ السّمَاوَاتِ مَفْتُوحَةً، وَابْنَ الإِنْسَانِ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ الله.
(أع 7: 55)
في هذا الحدث المهيب يضع لنا إستفانوس الأساس الروحي للشخوص إلى السماء، ورؤية مجد الله، وسر ذلك كامن في الإمتلاء من الروح القدس، “رَجُلًا مَمْلُوّء مِنَ الإِيمَانِ وَالرّوحِ الْقُدُسِ” (أع6: 5)، وهو السر الذي يُفرق بين مؤمن ومؤمن، الفرق بين من يعيش ممتلئاً بروح العالم، ومن يمتلئ بروح الله.
يصف لنا سفر أعمال الرسل أن إستفانوس أثناء رَجمِه” شَخَصَ إِلَى السّمَاءِ”. فما معني “شَخَصَ إلى السماء”؟ الشخوص في المسيحية ليس النظر للأخر فقط، ولكنه بالأكثر هو الالتفات والمواجهة مع شخص أخر، هو التحول إليه بكل كيانه. أي أن الشخوص يحمل بُعد كياني، بمعنى أن الكيان كله يتجه نحو الشخص الأخر. وحديثنا هو عن لماذا شَخَص إستفانوس نحو السماء؟ وهل كل من نظر إلى السماء تنفتح أمامه ويرى مجد الله؟ بالطبع لا، فالحقيقة أن الالتفات والشخوص هو تحول الكيان بالكامل، هو تغيير الإتجاه من النظر للأرضيات إلى النظر للسماء. الشخوص والتحول نحو السماء من أهم التعبيرات المسيحية الموجودة في الكتاب المقدس. فمن أين جاء تعبير التحول؟
في إنجيل يوحنا الإصحاح الأول والعدد الأول يقول: “فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ عِنْدَ كَانَ اللهِ” فتعبير “الكلمة كان عند الله” ليس المقصود به أنه كان بجانبه -ولكنه يقصد أنه كان متجهاً نحو الله- فكان الابن الكلمة يشخص إلى الله الآب، فكان الله الثالوث فيه الابن يشخص في علاقة شخصية مع الله الآب. وكذلك الإنسان مدعو أن يدخل في علاقة شخصية مع الثالوث بكل كيانه، وفي الإتجاه بكل كيانه نحو الثالوث والسماء، يترك الإنسان اهتماماته الأخرى…ولكي يحدث هذا لابد من تحديد الأولويات” لأَنه حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا” (إنجيل متى 6: 21).
ما الذي جعل إستفانوس يتجه بكل كيانه نحو السماء؟ السر هو امتلاءه من الروح القدس. في ترجمات أُخرى يأتي ذكر الامتلاء من الروح القدس أولاً قبل الشخوص إلى السماء … فإذا أردنا إعادة صياغة الآية نقول: “أما إستفانوس وهو ممتلئ من الروح القدس شَخَصَ إلى السماء”. الامتلاء أولاً ثم الشخوص إلى السماء. يقول القديس سيرافيم ساروفسكي: “إن غاية الحياة المسيحية هي الامتلاء من الروح القـــــدس”. فمن خلال سر المعمودية الذي يتبعه سر الميرون (أي سر الامتلاء من الروح القدس) يصير الإنسان مسيحياً، ويستطيع أن ينضم للكنيسة ويشترك في جسد ودم المسيح. فالملء من الروح القـــدس هو أساس الحياة المسيحية، وهو ما يُؤهلنا للحياة الأبدية. ومن ثَم يُطلق على الإنسان المسيحي “قديس”، لأَنّهُ مَكْتُوبٌ: «كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنّي أَنَا قُدّوسٌ». (1 بط 1: 16).
لقد رأى إستفانوس مجد الله لأنه كان ممتلئاً من الروح القدس. لقد كان كيانه كله متجهاً نحو الله، ينظر إلى العالم غير المنظور ببصيرة روحية، وهو ما يسميه الاّباء “العيون الداخلية” (عيون القلب). بها يتمتع الإنسان برؤية المجد الإلهي.
لكن كيف يحصل الإنسان على هذه البصيرة الروحية وانفتاح عيون القلب؟ في معجزة المولود أعمي، خلق المسيح عيوناً للمولود أعمى، حين صنع له طيناً وطلى بها مكان عينيه وطلب منه أن يذهب لبركة سلوام ليغتسل. وكلمة سلوام تعني “المرسل”، وهو ما يشير إلى الروح القدس المرسل من الله الآب- “الرُّوحُ الْقُدُسُ، الّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي” (يو14: 26). هذا الحدث يوضح أنه كما أن الإنسان له عيوناً خارجية، له أيضاً عيوناً داخلية يرى بها مجد الله، وسيظل الإنسان أعمى بدون عمل الروح القدس والإمتلاء منه. وكما أن عيون الأعمى تفتحت حين غُسلت في بركة سلوام، هكذا تفتحت العيون الداخلية حين مُسحت بالميرون، أي حين تقدست بعمل الروح القدس. لذا تستطيع العيون الداخلية، أن ترى النور الإلهي. ويقول يوحنا الحبيب: أن النور الإلهي هو حياة الناس- “فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ”(يو1: 4). فالقلب المتجه نحو الله والمُمتلئ بروح الله والعيون المملوءة بالنور الإلهـــي تستطيع رؤية مجد الله. ولكـــــــن ما هو مجد الله؟ الله نور، والمجد هو النور الخارج من الله، ويسوع المسيح هو شعاع نور المجد الإلهـــي، “الَّذِي وَهُوَ بهاء مجده” (عب1: 3). ورؤية مجد الله يسميه الاّباء بالثيؤريـــا (ثيؤ: الله – ريا: رؤية) أي “رؤية الله”، فالثيؤريا أو التحديق في الإلهيـــات هو موهبة متاحة لكل إنســان مسيحي له قلب نقي، ومستنيرة عيون قلبه الداخلية بعمل الروح القدس.
أما تنقية القلب هي حالة الصعود للجبل، مثلما صعد موسى، فعملية الصعود هي نموذج لعملية تطهير القلب والفكر من بُطل العالم، أي صعود من الأرضيات إلى السماويات. ولكن كيف نقتني هذا القلب؟ إن تنقية القلب يتطلب تدريب، وجهاد لاستجماع الفكر نحو الله، وإتجاه الإنسان لحوار دائم مع الله (الصلاة الدائمة)، صلاة محورها الحب الإلهـــي، واللهج في كلمة الله الحية الفعالة التي تخترق النفس، وبطلب الإمتلاء من روح الله القدوس، وتوجيه كل الأولويات نحو السماء، وبترك المشغولية الفارغة، والتغلب على طياشة الأفكار والخيالات، وتجولانها داخل العقل بدون إنضباط، وإذا تنقى الفكر والقلب من التشويش يرتقي الإنسان، ومن ثَم يتحول كل الكيان لله، ليدخل للإنفتاح على الإلهيـــات.
بهذا التحول يدخل الإنسان أيضاً في شركة مع الثالوث، في إتحــاد مع الآب والابن والروح القدس. “لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُومًا فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى الآبِ”، “فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلًا، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ” (أف2: 18،19). هذا هو تدبير الله للإنسان أن يصير واحداً مع الثالوث.
لقد كان إستفانوس يعيش حيـــاة الإيمــــان بعمق في هذا العالم، وفي علاقة حقيقية بالله، وفي وحدة معه “فَكَانُوا يَرْجُمُونَ إسْتِفَانُوسَ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ: أَيّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ اقْبَلْ رُوحِي” (أع7: 59)، وهذا ما قاله يسوع على الصليب: “يا أبتاه في يديك أستودع روحي” فقد وضع حياته بين يدي الله، وهذا هو الإيمان الحقيقي. لقد طلب إستفانوس الغفران لمن رجموه. “ثُمَّ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: يَا رَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هذِهِ الْخَطِيَّةَ” (أع7 :60). بالضبط كما غفر المسيح لصالبيه. وهذه هي حالة التشبه بالله. أي أن يصير الإنسان شريكاً في الطبيعة الإلهيــــة، وعلامة هذا التشبه هو طلب الغفران من أجل أعداءه كما فعل الرب يسوع.
وأخيرا لكي يرى الإنسان مجد الله، عليه أن يطلب الإمتلاء من الروح القدس الذي يفتح العيون الداخلية وينير داخل الإنسان، ويمارس أيضاً الصلاة الدائمة التي تنقي القلب وتستجمع الفكر، ويتأمل في أعمال الله – الثيؤريا – كذلك يسلم الحياة لله لكي يدخل في شركة مع الآب والإبن والروح القدس، ويصير شريكاً في الطبيعة الإلهية.