يناير 15, 2013 معمودية المسيح ومعموديتنا (2)  ـــ الأب متى المسكين

معمودية المسيح ومعموديتنا (2) ـــ الأب متى المسكين

المعمودية سر لا يتكرَّر، لأن المسيح مات مرَّة واحدة ولا يسود الموت عليه بعد. هكذا كل مَنْ اعتمد للمسيح لا تتكرَّر معموديته قط، لأنها ليست تكراراً لمعمودية المسيح على الصليب بل هي في الحقيقة اصطباغ حقيقي في ذات صبغة المعمودية الواحدة التي أجراها المسيح مرَّة واحدة بالموت الذي ماته على الصليب كذبيحة فريدة في نوعها عن كل إنسان.

لذلك، فكل إنسان يعتمد للمسيح في الكنيسة يعلن اشتراكه في موت المسيح مرَّة واحدة كفعل إلهي ينتهي بالقيامة، وبتعبير بولس الرسول يلبس المسيح ميتاً ومُقاماً: «نحن الذين اعتمدنا للمسيح قد لبسنا المسيح»(غل 3: 27)، فكيف نخلعه؟ أو هل يستطيع الذي قام مع المسيح أن يموت؟ فكما أن الموت لا يسود على المسيح كذلك أعضاؤه، إن كانوا حقًّا فيه. فالمسيح أعطى موته وقيامته للكنيسة ليخلق لنفسه بواسطتها أعضاءً جديدة لجسده، ويبقى هو دائماً رأس الكنيسة، والمعمَّدون جسده، أخصَّاءه: «من لحمه ومن عظامه» (أف 5: 30)، « وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفراداً.» (1كو 12: 27)

وعلينا أن ننتبه دائماً أن المسيح مات على الصليب وقَبِلَ الصبغة – أي المعمودية بالدم – في جسده الذي هو نحن، ليخلق في نفسه الإنسان الجديد الذي كانت تتمنَّاه البشرية ولكن لا تعرف كيف يكون. فالمسيح مات وأكمل الخلاص والفداء دون وعي من جهة الإنسان، كما يقول القدَّاس الغريغوري: [من أجل الضالين وغير العارفين]، أو كما يقول بولس الرسول: «لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رو 5: 8)، أي ونحن مرفوضون تماماً ورافضون تماماً لنعمة الخلاص – لا ندريها ولا نريدها ودون شعور منا بها – وهبها لنا المسيح مجَّاناً؛ حتى إذا أدركناها فيما بعد وأردناها بحريَّة إرادتنا، نمتلئ فرحاً ونعيماً وسروراً ونشعر حينئذ بعظم الاحتياج بل وباستحالة الحياة بدونها، وذلك كله حينما نقبله ربًّا ومسيحاً بإرشاد الروح وجَذْب الآب: «لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق» (يو 16: 12 و13). كما يقول الكتاب: «ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس» (1كو 12: 3). وكذلك أيضاً يقول: «لا يقدر أحد أن يُقبِل إليَّ إن لم يجتذبه الآب» (يو 6: 44)، أي لا يستطيع أحد أن يُقبِل إلى المعمودية من ذاته أو بمشيئته، أو يأتي إلى عضوية جسد المسيح بقناعة منطقية أو بذكاء أو فهم بشري أو بإحساس الحاجة الطبيعية إليها، بل هي مشيئة الآب التي تجذب بالروح المختارين إلى المسيح لنوال التبني!! فالله هو الذي يدعونا بروحه بنخس الضمير ليتبنانا لنفسه في شخص ابنه يسوع حسب مسرَّة مشيئته: «لأنه هو أحبنا أولاً.» (1يو 4: 19)!!

ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن الميلاد الجديد بالمعمودية، هو علاقة شخصية بالله تبدأ من الله وتنتهي به، فهي علاقة مسرَّة ذاتية، علاقة حب وتبني: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» (مت 3: 17)، هذا هو صوت الآب لكل مَنْ أقبل إلى الله بالمسيح ليعتمد لموته!! كما سبق المسيح وأعلن عن عمله السرِّي في هذه العلاقة التي أنشأها لنا مع الآب، فهو المسافة الروحية التي تصلنا أو تفصلنا عن الله، التي أوضحها عندما قال بإيجاز شديد: «أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية» (رؤ 1: 8)، وأيضاً: «أنا هو الباب» (يو 10: 9)، وأيضاً: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو 14: 6)، «ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي» (يو 14: 6). لذلك يكمِّل لنا المسيح في المعمودية ما أكمله من أجلنا على الصليب. فكما بدأ المسيح الخلاص بالموت وأكمله بالدفن ثم القيامة، في نفسه، هكذا في المعمودية يعطينا المسيح ذاته، يعطينا موته وقيامته، البداية والنهاية! وفي الإفخارستيا يصير جسده ودمه هو الطريق الحي الجديد الذي ندخل به إلى الأقداس العليا.

ولكن تظل البداية والنهاية لنا تحتاج كل يوم إلى تكميل، فالموت بالنسبة لنا عمل دائم: «من أجلك نُمات كل النهار» (رو 8: 36)، والقيامة تحتاج إلى النظر دائماً إلى فوق، لأن العضو لا يدخل في جسد المسيح أي الكنيسة كاملاً في شيء، بل والكنيسة كلها معاً لا تزال تنمو في الإيمان وتكمل في قامة المسيح؛ على أنها لا تبلغ حد الكمال طالما هي على الأرض بل تنمو كل يوم وينمو أعضاؤها، في كل مواهب الخلاص واستحقاقاته وإدراك أسراره: «صادقين في المحبة ننمو في كل شيء إلى ذاك الذي هو الرأس: المسيح» (أف 4: 15). وكما يقول ويكرِّر بولس الرسول أن الأعضاء ليست متساوية في الدعوة أو في الوظيفة أو في المواهب أو في الجمال أو في الكمال، ولكن الكامل عليه دائماً أن يُكمِّل الناقص، والناقص عليه دائماً أن يأخذ من الكامل ما هو أفضل، حتى نمتلئ جميعنا إلى كل ملء الله!! ومن خصائص جسد المسيح أن ليس فيه افتخار لعضو على عضو حتى لا يكون انشقاق بين الأعضاء إن كانوا حقًّا في المسيح، وإن كانوا اعتمدوا لموته فعلاً واستقوا من روحه القدوس.

أما عمل الكنيسة الآن فهو تكميل عمل المعمودية الأُولى: «لبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح» (أف 4: 12 و13). والكنيسة عملها الوحيد أن تعرِّف كل إنسان بِغِنَى ميراثه الذي ناله بالتبني، بقبوله المعمودية باسم يسوع المسيح: «مستنيرة عيون أذهانكم (فعل المعمودية الأول) لتعلموا ما هو رجاء دعوته وما هو غِنَى مجد ميراثه في القديسين.» (أف 1: 18).

اترك رد