مقدمة
يبدأ القديس لوقا سفر أعمال الرسل في الأصحاح الأول بتأكيد ووعد وتوجيه من المسيح لرسله القديسين. ألا وهو انتظار “موعد الآب”، أي حلول الروح القدس، اللازم لإتمام الكرازة والشهادة المسيحية. بالطبع فإن انسكاب الروح القدس في يوم الخمسين له أيضا تبعات على المستوى الكياني، إذ به تكونت الكنيسة الأولى وولدت، وصارت هي جسد المسيح. فليس مستغربا أن يتم هذا الحدث في “عيد الاجتماع” اليهودي والموافق “عيد الأسابيع” أو “عيد الحصاد”، بحسب ما يحمل كل مسمى من دلالة. لكن من المهم جدا ملاحظة أن كل ما تقوم به الكنيسة من تلك اللحظة فهو تحت قيادة روح الله العامل فيها. انطلاقا من ذلك، يقوم القديس بطرس بأول مواجهة علنية مع الجموع لإعلان فحوى الكرازة المسيحية. وكان رد الجموع على هذا الاعلان هو: “مَاذَا نَصْنَعُ أَيّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ؟” (أع 2: 37).
فحوى الكرازة المسيحية
يبدأ بطرس الرسول خطابه للجموع المحيطة بالعلية باستعلان حقيقة شخص يسوع بصفته المسيح الرب، وهو ما تبرهن بقيامته “نَاقِضاً أَوْجَاعَ الْمَوْتِ” (أع 2: 24). هذه هي الرسالة التي تحملها الكنيسة للعالم كما يقول بطرس “فَيَسُوعُ هَذَا أَقَامَهُ اللهُ وَنَحْنُ جَمِيعاً شُهُودٌ لِذَلِكَ” (أع 2: 32). من جهة أخرى، فإن الشق الثاني المكمل لهذه الشهادة، والذي لا يكون هناك انتفاع من الشق الأول من دونه، هو “تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا فَتَقْبَلُوا عَطِيّةَ الرّوحِ الْقُدُسِ” (أع 2: 38). أنها ذات الدعوة التي كرز بها يوحنا المعمدان ويسوع المسيح من بعده: “تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ” (مت 3: 2، مت 4: 17). لقد قام المسيح هازما الموت والفساد ومفتتحا ملكوت السموات للبشرية، ولكن كيف للبشرية أن تقتبل وتنتفع عمل المسيح الخلاصي؟ هذا ما يجيب عنه عمل التوبة المؤسس في المعمودية. بالتالي فإن بطرس الرسول يرد على تساؤل الجموع بضرورة التوبة والاعتماد باسم يسوع المسيح.
دور التوبة في الخلاص
لقد تلازمت التوبة مع المعمودية من بداية الكرازة: “تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ…” (أع 2: 38). والتوبة في مفهومها المستمد من التقليد هي عملية عودة للحضن الإلهي، و”تجدد للذهن” و”تغير في الشكل”، هي موت عن حياة سابقة وقبول لحياة جديدة بواسطة “الاتحاد” بالمسيح في موته وقيامته، وهو ما يُتمم في سر المعمودية. ولكن لا تتوقف التوبة في حياة المؤمن عند هذا العمل الأولي في المعمودية، بل تستمر التوبة “كمعمودية ثانية” يقف الإنسان على شاطئها في كل لحظة، ويتاح له النزول إلى مياهها بمؤازرة النعمة الإلهية في كل حين. يتضح هنا أن التوبة المستمرة هي عملية عودة مستمرة ومتعمقة إلى الحضن الإلهي الأبوي، باتحادنا بابن الله يسوع المسيح. أخيرا، فإن نصيحة الروح القدس على لسان القديس بطرس الرسول للجموع التي تتساءل عن “ماذا نصنع…؟” هي “التوبة”. لكي يوضع حد للموت والفساد والآلام في حياة البشر فلا مفر من التوبة. أي ترك هذه الحياة العتيقة بكل ما لها، بكل خصائصها، بطبيعتها المغلوبة، وقبول الحياة الجديدة بالقيامة مع يسوع المسيح. فبدون التوبة تظل القيامة مجرد خبر مثير للانتباه لم تبدأ فاعليته بعد.
المؤمن والجيل الملتوي
يطور القديس بطرس المفهوم الصحيح عن العمل اللازم صنعه للحصول على الخلاص. ويقدمه متجسدا في هذه الكلمات: “اخْلُصُوا مِنْ هَذَا الْجِيلِ الْمُلْتَوِي” (أع 2: 40). من تاب ومات عن حياته الساقطة السابقة يلزمه النمو في القداسة. وهذا ما يظهر في التوجيه السابق، أي التقديس في جانبه المتعلق بالاعتزال أو الانفصال (Separation). فالتوبة لكي ما تكتمل تتطلب ترك. وكلمة “جيل” هنا قد تحمل مدلول جماعة بشرية تحيا في زمن معين، ولكنها أيضا تعني “نسل”. الذين سبق الله وأخبر عنهم “الذِينَ هُمْ عَارٌ وَليْسُوا أَوْلادَهُ جِيلٌ أَعْوَجُ مُلتَوٍ” (تث 32: 5). هم ذرية ممتدة منذ بدء الوجود البشري وحتى اليوم الأخير. هم من يرفضون التوبة أو العودة للحضن الأبوي، لذلك يدعوهم “َليْسُوا أَوْلادَهُ”، من لا يقبلون التبني في يسوع المسيح. الفصل بين ما هو لله وما ليس لله هو فعل التقديس. لذلك يأمر القديس بولس كنيسة كورنثوس: “اعْزِلُوا الْخَبِيثَ مِنْ بَيْنِكُمْ” (1 كو 5: 13). هكذا نحتاج نحن أيضاً أن نعزل كل ما هو خبيث وملتوٍ من دواخلنا.
ماذا نصنع…؟ الآن
لقد شوه العالم في يومنا هذا معنى التوبة، وأعاد بلورة مدلولها في نفوس البشر، بأن صورها عبئاً وعاراً وإذلالاً. بل صار الناس لا يطيقون سماع هذه الكلمة، وأصبحت رخيصة مستهلكة في عيون الكثيرين. قال أحدهم ذات مرة ما معناه “أن أي عظة عن التوبة ما هي إلا قلة حيلة من الواعظ لأنه لا يجد ما يقدمه”، وقال أخر “أن الدعوة للتوبة التي تقدمها الكنيسة ما هي إلا تعييراً للبشر على خطاياهم لكي ما يبقوا في تبعية سلبية للإكليروس”. كيف تحقق الانزلاق إلى هاوية الضلال هذه؟ أنه لأمر مؤسف حقاً، حالة بائسة تقطع على الإنسان فرصته في الحصول على الخلاص. ستبقى الدعوة الإلهية للإنسان كما هي لا تتغير، هل جاء المسيح ليدعوا أبرارا أم خطاة للتوبة؟
تشهد حياة القديسين على مدار تاريخ الكنيسة أن حياتهم قد تأسست على التوبة وانعزالهم عما يختص بحياة العالم. بالتوبة قَبل القديسين “بهجة الخلاص” وراحة في المسيح من أتعاب الخطية وموتها. والآن ماذا نصنع نحن؟ يجب أن يتحول هذا السؤال ليصير هو سؤالنا الشخصي، إن أردنا أن نقبل الخلاص والفرح الإلهي. ستبقى التوبة هي الإجابة الشافية لكل اضطراب أو ضيق في حياة الإنسان، هي بدء الحل لكل معضلة. لأن التوبة تدخل الإنسان في معية الله وتجعله يستظل بنعمته وصلاحه. فبدون التوبة يظل الإنسان يتيماً بلا راعي. فالخطية تبقى فاصلاً بين الإنسان والله. «الْيَوْمَ، إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ»” (عب 4: 7)، هكذا يهمس روح الله في قلب كل إنسان، “تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ” (مت 11: 28). لنعد إليه بالتوبة لنستلم راحتنا فيه. ليحقق الله فينا أمره الخلاق «كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ»” (1 بط 1: 16). إنها الآن الفرصة لنخلص من هذا “الجيل الملتوي” برفض أسلوب حياته، بتقيؤ أفكاره ومبادئه الساقطة، التي لها صورة الحكمة من الخارج ولكن في داخلها تحمل سماً مميتاً. لا يوجد وقت تكون التوبة فيه غير مناسبة، التوبة مرتبطة جدا بـ “الآن”، كل لحظة من حياتنا هي مناسبة للتوبة. وعندما نتساءل عما يجب فعله الآن، تكون الإجابة هي “التوبة”.
والمجد للآب والابن والروح القدس، الآن وكل أوان، آمين.
شــريف مــــراد