بحسب التقليد الرسولي والآبائي، وبحسب إمتداد الأرثوذكسية تاريخياً، فإن الكنيسـة قد وُجدت وأُظهرت في حادثة “يـوم الخمسين”، وأن ماحدث يوم الخمسين يتم ويختبر في كل إجتماع إفخاريستي.
إن مجمل حياة المؤمن، وكل منعطف في حياته إنما هو إعداد للإشتراك أو إشتراك فعلي في عطايا الروح الـقدس، وفي إعادة تشكيل الحياة. فإعادة التشكيل هذه لها بدايتها الديناميكية في فعل الدخول إلى الكنيسة، الفعل الذي نصبح من خلاله أعضاء في الجسد الكنسـي أي من خلال المعمودية، وسر المـيرون.
نحن أعضاء في الكنيسة ليس بقبول مبادئ نظرية أو عقائد أو إلتزامات أخلاقية، لكن قبل كل شئ من خلال فعل جسدي: الثلاث تغطيسات في مياه المعمودية، وهى إشتراك عملي في موت وقيامة المسيح. فالشخص الذي يتقدم إلي الكنيسة ” يدفن ” كــ ” إنسان عتيق “، ” ويقوم ” بالثلاث رفعات من الماء إلي ” الأصل الثالوثي “. هذا ” الدفن ” هو طوعي، بحسب مثال المسيح، وهو بداية عدم الفناء للمخلوق وليس تحلله وإختفائه، وهذا يحدث بالماء الذي هو رمز ورحم الحياة، فالماء هو البداية اللازمة لكل طبيعة مفعمة بالحياة. فقد خرجت الحياة الأولى من الماء، وكان أول تحول للطبيعة الحية من المادة العديمة الحياة (وهو أمر صعب تخيله بالنسبة للعقل البشري)، ومن مياه المعمودية هذه، تخرج حياة جديدة، وهو التحول الجذري للأقنوم الشخصي من الحياة الفردية والمحصورة في معمودية الموت.
إذ يستدعي الأسقف أوالكاهن “الرب المحي” لكي يحول الشكل الظاهري علي أنه موت وقيامة إلى حادثة حياتية فيقول:
” إنزع ذاته العتيقة، وجدده بالحياة الأبدية، وإملأه بقوة الـروح الـقدس في إتحاد مع مسيحك،حتى لا يكون ابنا للجسد فيما بعدْ، بل ابن ملكـوتك” (من صلاة المعمودية للروم الأرثوذكس) .
فيعمل الـروح القدس في الحياة الطبيعية، محولاً نمط وجودها، مطعماً الفاني (المخلوق) في عديم الفناء (المسيح).
وهذا علي عكس الولادة الطبيعية، والتي تُنْتِج وحدة بيولوجية إلى الحياة التي هي تحت حتمية الفساد والموت، وهكذا فإن المعمودية تعيد إنتاج الوجود.
” مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي، بقيامة يسوع المسيح من الأموات” (1بط 1: 3)
ومن خلال وجود شخصي معرف بإسمه يَحفظ (الإنسان) نفسه كحياة متأقنمة، بفضل الشركة والعلاقة مع حب الآب. وبهذا يتوقف الإنسان عن أن يكون له ببساطة وجود فردي، أو يكون مجرد حلقة في التسلسل البيولوجي، كجزء من كل. وهكذا يُشرك الإنسان في رفقة القديسين، أى إدراك الحياة الثالوثية. فيأخذ كل منا اسم قديس، يستقبل في شخصه إعلان الحب الإلهي.
في الكنيسة الأولى، قام الرسل بـ”وضع الأيادي عليهم فقبلوا الروح القدس”(أع17:8)
ولكن إعطاء مواهب الروح القدس من شخص إلى شخص مؤمن وُلد ثانية بالمعمودية يستمر في الكنيسة بالمسحة المقدسة (الميرون).
فبالمسحة المقدسة فإن الشخص الذي يُقْبِلْ إلى الكنيسة يشترك ليس فقط فى الإمكانيات الأساسية للخليقة الجديدة، بل أيضاً يُختم بِختم التبني الشخصي، وهو ختم العلاقة الشخصية والفريدة مع الثالوث القدوس عن طريق الحضـور الشخصي للروح القدس في أعماق وجوده الباطني، أي مركز أقنومه.
وتتم المسحة الآن بالزيت العطر، وبالطريقة التي كان يمسح بها الملوك في إسرائيل خلال العهد القديم وليس بوضع الأيدي.
ولكن قديماً عند مسح الملوك، لم يكن هناك تحول في الطبيعة، لكن التحول كان في العلاقة بين الشخص الممسوح مع باقي الناس. فقد وَجَدَ الشعب في الشخص ــ الممسوح ملكاً ــ محوراً ومركزأً لحياتهم، كشركة ووحدة، وفي نفس الوقت رأوا فيه نموذجاً للمسيا المنتظر وهو ” مسيح الرب” المميز، والذي سيحرر ويعيد تأسيس الحياة في ملء الوعود الإلهية.
وهكذا ففي غيرية كل شخص ممسوح، تري الكنيسة إمكانية جديدة للحياة الحقيقية الخاصة بمواهب الروح، والتي تتحقق وتتجلي مع صورة المسيح التي تحرر وتعيد تأسيس الحياة في ملء نمط الحياة الإلهية.
إن الإفخارستيا، والمعمودية، ومسحة الميرون هم الطرق التي من خلالها يستمر حدث يوم الخمسين في التجلي والظهور، أي حلول الـروح القـدس المُكَون للكنيسة. لقد إعتدنا أن نطلق على هذه الطرق ” أسـرار”. وهى ليست ثلاثة فقط ، ولكنها تكتمل بــ الإعتراف، والكهنوت، والزيجة ومسحة المرضي. فهم سبع طرق محددة تتيح للإنسان الإنخراط العضوي لحياة الفردية في حياة الجسد الكنسي. وفي نفس الوقت تَتَحقق، وتَظْهر الكنيسة من خلال الخليقة الجديدة التي من قِبَلْ الروح القدس.
وإذا كنا نستخدم لفظ ” السـر” للتكلم عن هذه الطرق، فهذا ليس بسبب أن لها طابع خفي، بل لكي تُظْهِر أن الإنخراط في حياة الكنيسة لا يستنفذ الرمز الظاهري.
إن لغتنا اليومية الدارجة أو حتى التي لها طابع علمي ليست كافية لتعريفها. إن الأمر يستلزم الإشتراك الإختباري للإنسان في هذه الأسرار التي تحتفل الكنيسة بها، كى ما نصل إلي معرفتها .
ولكن من خلال مفهوم الغرب المؤسسي والبيروقراطي عن الكنيسة، فإننا عندما نتكلم عن الأسرار اليوم، يصل لكثير من الناس مفهوم خاطئ عنها، مثل أنها كلام عن أفعال طقسية رسمية يَمنح من خلالها الأكليروس نعمة خارقة للطبيعة ( وأحيانا سحرية ) أو تبرير أو إستحقاق أو بركة للمؤمنين.
وهذا بالطبع لا يمت بصلة لتجديد الحياة ولا عدم الفساد أو الخلود الذي يمنحه روح الله القدوس بتكوين الكنيسة.