«أنا أمضي لأُعدَّ لكم مكاناً»(يو14: 2):
لقد سبق أن أنبأ الرب تلاميذه قبل صلبه، وهو بعد معهم في ليلة آلامه، إنه ماضٍ ليُعدَّ لهم مكاناً، فقال لهم: «لا تضطرب قلوبكم. أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي [لأني «أنا والآب واحد» (يو 10: 30)، «الآب فيَّ وأنا فيه» (يو 10: 38)، «الذي رآني فقد رأى الآب… أني في الآب والآب فيَّ» (يو 14: 11،9)، «في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي، وأنتم فيَّ، وأنا فيكم» (يو 14: 20). في بيت أبي منازل كثيرة، وإلاَّ فإني كنتُ قد قلتُ لكم. أنا أمضي لأُعدَّ لكم مكاناً، وإن مضيتُ وأعددتُ لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً» (يو 14: 1-3).
كان الرب يعلم تماماً مقدار عنف التجربة التي سيجتازها تلاميذه بمفارقته لهم بالجسد، ليتحمل هو وحده عنهم وعن العالم كله كل آلام التعذيب والموت على الصليب لأجل خلاص البشرية. فاعتبره لِزَاماً عليه في تلك الساعات المتبقية قبل تسليمه ليد أعدائه، أن يُشدِّد قلوبهم ويُعزِّيهم ويملأهم بالإيمان به والرجاء فيه وفي الآب الذي هو فيه وفيهم، ولكي يُطمئنهم أنه ماضٍ ليُعدَّ لهم مكاناً، وأنه سيعود ليأخذهم إليه حتى حيث يكون هو يكونون هم أيضاً.
لكن التلاميذ لم يستطيعوا أن يستوعبوا إمكانية مفارقة الرب لهم، حتى ولو كان ماضياً ليُعدَّ لهم مكاناً، وحتى ولو كان سيأتي أيضاً ويأخذهم إليه، لأنهم لم يكونوا بعد يُدركون أين سيذهب، وبالتالي لا يقدرون أن يعرفوا الطريق!
كان كل كلام الرب لهم ما زال يُمثِّل ألغازاً، رغم كل عشرته معهم مدى السنوات الثلاث التي عاشها بينهم، والتي أظهر فيها قوته وسلطانه ولاهوته ومعجزاته، واستعلن لهم أسراره وعلاقته بالله أبيه. هكذا صرَّح توما للرب عن مدى حيرته وعدم استيعابه لِمَا يقوله الرب قائلاً: «يا سيد، لسنا نعلم أين تذهب، فكيف نقدر أن نعرف الطريق؟» (يو 14: 5).
أجاب الرب: «أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلاَّ بي. لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً. ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه» (يو 14: 7،6). ورغم أن إجابة الرب كانت صريحة وواضحة وكافية، وأنه هو الطريق والحق والحياة، وأنه لا طريق إلى الآب إلاَّ به، وأن معرفتهم له تكفيهم ليعرفوا الآب، ومن الآن يعرفونه وقد رأوه في شخص المسيح؛ إلاَّ أن فيلُبُّس فاجأ الرب بسؤاله: «يا سيد، أَرِنَا الآب وكفانا!» (يو 14: 8).
فتعجَّب الرب من سؤال فيلبُّس الذي دلَّ على جهلٍ تام بشخص الرب، مما جعله يُجيبه منذهلاً: «أنا معكم زماناً هذه مُدَّته ولم تعرفني يا فيلُبُّس! الذي رآني فقد رأى الآب، فكيف تقول أنت أَرِنا الآب؟ ألستَ تؤمن أني أنا في الآب والآب فيَّ؟ الكلام الذي أُكلِّمكم به لستُ أتكلَّم به من نفسي، لكن الآب الحالَّ فيَّ هو يعمل الأعمال. صدِّقوني أني في الآب والآب فيَّ، وإلاَّ فصدِّقوني لسبب الأعمال نفسها» (يو 14: 9-11).
هنا عتاب حزين من الرب لفيلبُّس، وبالتالي لباقي التلاميذ، فكيف يفوت على فيلبُّس وعلى باقي التلاميذ أن يتعرَّفوا على حقيقة شخص المسيح، وأنَّ مَن رآه فقد رأى الآب، فحياة المسيح كلها استعلان للآب فيه. لأن كل رسالة المسيح، قولاً وفعلاً، هي لاستعلان الآب الذي فيه، لأن «الله لم يَرَه أحدٌ قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر» (يو 1: 18).
إلاَّ أن التعرُّف الصحيح على المسيح لم يكن نتيجة تقصير في اجتهاد التلاميذ، ولكنه كان نتيجة عدم اكتمالهم في إنكارهم لذواتهم وحملهم الصليب واتِّباعهم الرب بكل قلوبهم، مع أنهم كانوا مؤهَّلين لكل ذلك حينما يحلُّ عليهم الروح القدس، ويفتح الرب أذهانهم، فإنه «ليس أحد يعرف الابن إلاَّ الآب، ولا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن، ومَن أراد الابن أن يُعلِن له» (مت 11: 27).
ومع ذلك فقد كان التلاميذ محتاجين أن يُراجع الرب معهم حقائق الإيمان التي سبق فأعلنها لهم مراراً وتكراراً، وهي أنَّ المسيح كابنٍ كيانه هو في كيان الآب، وأنه هو والآب واحد، وأن كل ما يقوله أو يعمله لا يعمله أو يقوله من نفسه، لكن الآب الحال فيه هو الذي يعمل ويتكلَّم: «الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي بل بالذي أرسلني، والذي يراني يرى الذي أرسلني»(يو12: 45،44).
«إنه خيرٌ لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزِّي»(يو16: 7):
كان كل همُّ المسيح في الساعات المتبقية له مع تلاميذه قبل تسليمه للصَّلْب، هو أن يُعدَّهم لهذا الفراق الذي ينبغي أن يكون بينه وبينهم بالجسد. وبدأ بقوله لهم إنه ماضٍ ليُعدَّ لهم مكاناً، وبأنه سيأتي أيضاً ليأخذهم إليه حتى حيث يكون هو يكونون هم أيضاً. فهو فراق مؤقت يؤدِّي في النهاية إلى اتحاد أبدي.
ثم ارتفع بهم خطوة أعلى بقوله لهم إنهم مهما سألوا من الآب باسمه فذلك سيفعله لأنه ماضٍ إلى أبيه، وهو سيطلب من الآب فيُعطيهم مُعزِّياً آخر ليمكث معهم إلى الأبد (يو 14: 12-17). وأكَّد لهم ذلك أيضاً بقوله لهم: «لا أترككم يتامَى. إني آتي إليكم. بعد قليل لا يراني العالم أيضاً، وأما أنتم فتَرَوْنني. إني أنا حيٌّ فأنتم ستَحْيَوْن» (يو 14: 19،18).
وهو في هذه الخطوة الأعلى يُعلِن لهم أن مُضيَّه إلى الآب لن يحرمهم من عمله معهم ولأجلهم. بل إنه سيطلب من الآب لأجلهم فيُعطيهم مُعزِّياً آخر ليمكث معهم إلى الأبد. فالمسيح، بذهابه إلى الآب، يؤكِّد لتلاميذه أنه خير لهم أن ينطلق، ويُعدِّد لهم ثمار موته وقيامته وصعوده وجلوسه عن يمين الآب، من حيث إنها ستعود عليهم بفيض من القُوَى والمواهب والأعمال التي كان يعملها أمامهم وأعظم منها، ليتمجَّد الآب بالابن. ولن يكونوا هم العاملين لها، بل المسيح الساكن فيهم والآب الذي يحبهم والروح القدس الماكث معهم.
لقد كان الرب يسوع يجتهد بكل حبه لهم أن يرفع عنهم سحابة الحزن التي خيَّمت على وجوههم، وأن يُبدِّد روح الخوف الذي بدأ يدبُّ في قلوبهم. فقد كان يُدرك تماماً مقدار تعلُّق التلاميذ به، لذلك وعدهم بيقين أنه لن يتركهم يتامى، كما قال لهم أيضاً: «إني آتي إليكم»! وهذا الفعل ”آتي“ يجيء في اللغة اليونانية في زمن المضارع المستمر، وهو يعني أنه سيظل يأتي ويأتي ليُغطِّي كل الزمان إلى مالانهاية. وقد ظل مجيئه بالفعل على مستوى الإقامة الدائمة في الكنيسة: «ها أنا معكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 20).
فالمسيح حاضر دائماً في الكنيسة بالروح القدس الذي يأخذ مِمَّا للمسيح ويُخبرنا (يو 16: 15،14). فروح الحق هو الذي يُرشد كل الأعضاء في جسد المسيح الثابتين فيه والمُحبين له إلى جميع الحق، وهو لا يتكلَّم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلَّم به في قلوب الساكن فيهم ويُخبرهم بأمور آتية: «ذاك يُمجِّدني، لأنه يأخذ مِمَّا لي ويُخبركم» (يو 16: 14).
لذلك يؤكِّد المسيح لتلاميذه أنه لن يتركهم يتامى، لأنه حتى ولو مات بالجسد، ولو صاروا يتامى إلى حين وأحسوا باليُتم يومين؛ إلاَّ أنه سيقوم في اليوم الثالث، ويأتي إليهم ويراهم وتفرح قلوبهم ولا ينزع أحد فرحهم منهم. فهو إن كان بعد قليل لا يراه العالم، أما هم فسيرونه، لأنه حيٌّ كل حين، وسيَعْبُر الموت كأنه لم يكن، لأن قوة القيامة كائنة فيه، لذلك قام «ناقضاً أوجاع الموت، إذ لم يكن ممكناً أن يُمسَك منه» (أع 2: 24).
وبما أن المسيح إلهنا حيٌّ، فكلُّ مَن يثبت فيه يحيا به، لذلك قال: «إني أنا حيٌّ، فأنتم ستحيون». كما قال أيضاً: «وكل مَن كان حيّاً وآمن بي، فلن يموت إلى الأبد» (يو 11: 26). فكلُّ مَن آمن بالمسيح وقَبِلَه فادياً ومُخلِّصاً له، واعتمد ليسوع المسيح فقد «اعتمدنا لموته، فدُفِنَّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جدَّة الحياة. لأنه إن كنَّا قد صرنا متَّحدين معه بشِبه موته، نصير أيضاً بقيامته» (رو 6: 3-5). وهكذا صارت لنا شركة مع المسيح في موته وقيامته وصعوده وجلوسه عن يمين الآب. لذلك قال القديس بولس: «وأقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويَّات في المسيح يسوع، ليُظهِر في الدهور الآتية غِنَى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع» (أف 2: 7،6).