بنفس المفهوم الغربي، يُعرف الكثير من الناس الكنيسة علي أنها الإكليروس فقط، أى الأساقفة والقسوس والشمامسة، فاصلين جموع الشعب عن القائمين علي الإحتفال بالأسرار الكنسية. ولكن يجب أن نفحص إن كان هذا الفصل صحيحًا، وكيف يظهر هذا الرأي داخل الكنيسة، وما علاقته بحقيقة الكنيسة والمناداة ” بالحياة الحقيقية “.
لذا وجب أن نحدد التعريف الأساسي للكنيسة قبل أى شىء. فالكنيسة
وليمة هي”وليمة الإفخارستيا” وبالضبط كما في وليمة الفصح الخاصة بالعبرانيين ــ هكذا أيضًا في الإفخارستيا الكنسية ــ هناك من يبارك الكأس ويرفع الصلاة الإفخارستية – مثل “كبير العائلة” أو “رئيس المتكأ” – وقد إتخذ المسيح مكانته ككبير (في اليوناني شيخ ” قس” ) أو كرئيس في العشاء الأخير يوم خميس العهد. وبعد يوم الخمسين فإن نفس هذه المكانة إتخذها الرسل. إذ ترأس الرسل علي وليمة الإفخارستيا، ورفعوا الشكر مباركين الكأس وكاسرين الخبز. وعندما تشتتوا في رحلاتهم – تقريبًا الي كل رقعة من العالم المعروف يومها ــ أسسوا “كنائس” في كل مدينة، أى إنه أصبح هناك إجتماعات إفخارستية محلية، حيث قاموا هم أنفسهم برئاستها – علي الأقل في البداية.
ولدينا معلومات وافية من القديس لوقا في سفر “أعمال الرسل”، وأيضًا من رسائل القديس بولس، عن الكيفية التي تأسست بها الكنائس المسيحية الأولى.
لقد كانت الدعوة في البداية تتم عن طريق ذهاب أحد الرسل، بعد وصوله لأى مدينة، لزيارة المجمع اليهودي أو السوق اليوناني، وهناك كان يقدم خطبة علنية تعلن عن ” التعليم الجديد ” ــ عن تجسد الله وخلاص الإنسان ــ وكان من يُظهر إهتمامًا بالدعوة الأولى من السامعين، ويريد أن يعرف أكثر عن هذا التعليم، يجتمع في غرف خاصة حيث يستكمل الرسل البشارة بالتفصيل.
في هذه الدائرة الضيقة كان يتم إعداد المؤمنين الأوائل لإستقبال “المعمودية” و “موهبة الروح القدس” وذلك بوضع يد الرسل ــ والذين لهم وحدهم قد أُعطى هذا العمل.
وقد كَوَنَ المعمدون إجتماعهم الإفخارستي فورًا ــ أى كنيستهم المحلية ــ حيث كان الرسول المؤسس هو الرئيس والقائم علي الإحتفال. ولكن بسبب ضرورة إستكمال الرحلات الرسولية لإمتداد الدعوة إلى مدن أخرى، كان لزامًا علي المؤسس ــ الذي سيترك الكنيسة المؤسسة حديثًا ــ أن يختار أحد المؤمنين، وعن طريق وضع اليد ثانيةً عليه، يُعطى موهبةً خاصة أى يصبح هو رئيس الكنيسة المحلية، فيقوم بعمل الإحتفال الإفخارستي، ويُمارس التعميد، و يَمنح موهبة الروح القدس، ويكون أبًا روحيًا يعمل على الولادة الثانية للمؤمن وضمان نموه في النعمة والمعرفة.
وفي نصوص العهد الجديد دُعى الرؤساء الأوائل للكنائس أساقفة أو شيوخ. ولا يوجد فرق من ناحية المُسَمَيين، لأنه لا يوجد فرق من ناحية الوظيفة، مما يشير إلى أن المبدأ الأساسي هو وجود رئيس واحد لإجتماع إفخارستي محلي واحد، أى للكنيسة المحلية.
إلا أنه قد ظهر بالدليل التاريخي الموثق خلال العصر الرسولي وجود مجلس للشيوخ من البداية في الكنيسة المحلية، نوع من المجالس الإدارية أحاط برئيس الإفخارستيا المحلية. وعندما زاد عدد المؤمنين بصورة ملحوظة وأصبح من المستحيل أن يجتمعوا في إجتماع إفخارستي واحد، كان لدى الرئيس إمكانية تقسيم المؤمنين إلى مجموعات معينة واضعًا في كل منها شيخ من الشيوخ.
لكن إحتفظ لنفسه بأسقفية كل الإجتماعات، فهو الأسقف ( أى الناظر من أعلى ) للكنيسة المحلية، حيث الإجتماعات المقامة تقع داخل نطاق سلطانه – فتكونت الإبراشيات.
وأقام الشيوخ الإفخارستيا بأمر من الأسقف فقط وفي اسمه، ذاكرين اسم الأسقف في لحظة تقديم القداسات لأنه أصبح كأب ومانح للهبات الروحية بصفته خليفة الرسل والمسيح.
إن توزيع المؤمنين على إبراشيات محددة والإحتفال بالإفخارستيا علي يد الشيوخ لا يكسر وحدة الكنيسة المحلية، ولا يمحو طابعها كإفخارستيا واحدة وجسد واحد وأسقف واحد كرأس ” في صورة ومكان المسيح ” : فالأسقف ليس هو خليفة للرسل والمسيح فقط ــ بحسب المفهوم القانوني لإنتقال الحقوق ــ ولا هو ببساطة رمز لحضور المسيح، بل إن “موهبة الروح القدس” التي يستقبلها في رسامته، تجعل الأسقف قادرًا ــ ليس إعتمادًا على إستحقاقه أو عدم إستحقاقه الشخصي ــ أن يمارس عمل الحضور نفسه الذي للمسيح في الكنيسة، ليصنع وحدة الجسد الإفخارستي. والوحدة بالنسبة للكنيسة لا تعني ببساطة صلات مؤسسية أو وفاق أو إجماع، بل هي تحول في نمط الوجود، تغير من نظام الحياة الفردية إلى حياة المحبة المشتركة أي الحياة الأبدية.
إن “الأسقف” وهو في صورة ومكان المسيح، “والشيخ” وهو في صورة ومكان الأسقف يرأسوا الإفخارستيا. إنهم لا يرأسوا عبادة دينية رسمية، فليس الإكليروس هم من يتوسطون لدى الله أو يستعطفوه، بل هم محور الوحدة التي تحول الحياة، هم الآباء الذين يحملون الشعب إلى الخلود وعدم الفناء. فالحياة تتحد وتتصل بالحقيقة كما في العائلة. فليس صدفة أن الكنيسة الأولى عبرت عن روابط المجتمع الإفخارستي بتعبيرات مختصة بالروابط العائلية، فرئيس الإفخارستيا هو” الأب “، وأعضاء الجسد الإفخارستي هم ” أخوة ” مع إختلاف أنه في العائلة هناك إتحاد في الحياة وإتصال قائم علي صلة الدم والتي تعمل كرباط طبيعي، أما في الكنيسة فوحدة وإتصال الحياة هو أحد إنجازات الحرية.