«شهوةً اشتهيتُ أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم».
هي شهوة تكميل الرسالة وتسليم سر البقاء الدائم!
كانت آلام المسيح وكان موته الفاصل بين الوجود بالجسد والوجود بالروح، ليس فاصلاً زمنياً ولا فاصلاً كيانياً؛ ولكنه كان فاصلاً بين العيان المنظور والرؤيا بالروح لشخصه الإلهي في المجد.
وكان العشاء الأخير صورة وداع للغياب العيني بالمنظور، وفي نفس الوقت، استيداع سر بقائه مع التلاميذ إلى الأبد: «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر»؛ وذلك في سرٍّ استودعه الخبز ليكون عِوَض الجسد الروحاني مأكولاً بالفم ومستقراً في كيانهم بالروح، وفي خمرٍ ممزوج عِوَض الدم مشروباً بالفم ومستقراً في كيانهم بالروح.
كان هذا هو اشتياقه الذي برَّح به أن يأكل معهم فصح الوداع، ويكون فيه سر البقاء وسر الشركة الحقيقية بالروح.
وإمعاناً في تأكيد وجوده كلما أكلوا من الخبز وشربوا الكأس، قدَّس كليهما تقديساً ليحمل الخبز سر الجسد ويحمل الكأس سر الدم. وبعد أن قدَّسهما أعطاهم الخبز متحوِّلاً إلى جسده وكاشفاً سر التحوُّل بقوله: «خذوا كُلوا هذا هو جسدي… وخذوا اشربوا هذا هو دمي».
ولكي يجعل التأكيد على حضوره يقيناً، كشف لهم سر الجسد المكسور وسر الدم المسفوك بقوله: «كلما أكلتم من هذا الخبز (المتحوِّل) وشربتم هذه الكأس (المتحوِّلة)، تبشِّرون بموتي»؛ باعتبار أن الجسد حال تأكلونه، تأكلونه مذبوحاً بالسر؛ والدم حال تشربونه، تشربونه مسفوكاً بالسر؛ أي يكون قد استودع في العشاء سر الصليب والقبر. ولكونه أصلاً قد مات ليقوم، صارت البشارة بالموت هي بعينها اعترافاً بالقيامة.
وبهذا العمل السري، يستحضرون الرب حيّاً وعليه جروح الصليب، ويكون هذا بمثابة وجوده بينهم حيّاً كما كان، إنما في حال قيامة دائمة وجروحه عليه. وهذا يكون بمثابة صُنع تذكار حيّ لوجوده غير المنظور، لا بالفكر كمَنْ يتذكَّرون المسيح الذي مات ومضى؛ بل ذِكْر وجودٍ حيٍّ للمسيح القائم الدائم. وهكذا صارت الإفخارستيا استدعاءً لوجود الرب مذبوحاً وقائماً معاً بحالٍ غير منظور للعيان، فائقاً على فكر الإنسان؛ كخبز مأكول ودم مشروب، وهو هو بعينه المأكل الحق والمشرب الحق، وليس حقٌّ في الوجود إلاَّ المسيح. ولذلك اعتُبِرَت الإفخارستيا أكلاً حقيقياً للرب حسب قوله: «مَنْ يأكلني فهو يحيا بي»!
وهكذا يؤول التذكار إلى شركة حيَّة في المسيح لتتميم سر الاتحاد العجيب: «أنتم فيَّ، وأنا فيكم» ! و “مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه» ، «ويكون له حياة أبدية، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير» !
فتذكار المسيح بإقامة الإفخارستيا، هوذِكْر حضوره ليس ذكْراً عابراً، وهو بعينه سر شركة في حياة وقيامة الرب التي ستُستعلن أخيراً بالقيامة حينما نراه كما هو، ونرى أنفسنا فيه: «إذا أُظهِرَ نكون مثله، لأننا سنراه كما هو” . والقول: «نكون مثله» ، قولٌ سري عميق المعنى، غاية في الخطورة، لأنه يعني: شركة المثيل للمثيل.
وقوله: «وتذكرونني إلى أن أجيء» ؛ أي: إلى أن أُحقِّق لكم وجودي بالعيان المنظور، الذي يبلغ من الصفاء الحد الذي فيه يتطابق العيان مع الرؤيا، حين يبلغ الإنسان الجديد تحقيقه اللازمني، فيرى ما لا يُرَى. فنحن الآن نعيش الذكرى بسبب تعوُّق الإنسان الجديد عن أن يُعاين بالعيان المجد الحادث الآن للرب ، ولو أنه أحياناً يأتي، فينفتح وعي الإنسان الجديد ويرى الرب قائماً ومتكلَّماً.
مِن هذا يتأكَّد لنا أنه حاضرٌ محتجَبٌ. وقوله: «إلى أن أجيء» ، هو بسبب غيابنا نحن عن اكتشاف وجوده. لذلك فصراخ الشعب مع الكاهن في الكنيسة الأولى بعد تكميل الإفخارستيا وتناولهم جميعاً، عندما يقولون: “ماران أثا” بمعنى: “تعالَ أيها الرب يسوع، وليزول العالم”؛ هو محاولة شبه يائسة لرؤية الرب القائم في الوسط حسب وعده الأمين: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم»!
أما قوله على الجسد فهو: «لأني أقول لكم: إني لا آكل منه بعد حتى يُكْمَلَ في ملكوت الله»، ومرة أخرى على الدم: «الحق أقول لكم: إني لا أشرب من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديداً في ملكوت الله». وذِكْر كلمة: ”اليوم“، تفيد: ”الآن وفي الزمن الحاضر“. فالمعروف، وبحسب الرب، أن في الملكوت السماوي لا أكل ولا شُرب؛ ولكن المعنى أقوى وأبسط، فهو سيأكله معنا هنا عندما يكون قد دخل ملكوته، ويشربه معنا هنا سرّا ًعلى الأرض وهو قائمٌ في ملكوته. فالمعروف، وبحسب صراخ الشماس، أن المسيح يكون قائماً على المذبح وقت رفع الذبيحة، ويشترك معنا كعشاء الخميس مع الرسل.
أما كيف يأكل ويشرب هنا معنا، وهو في حال قيامته ومجده، فالردُّ على ذلك أوضحه هو: «وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه. وبينما هم غير مُصدِّقين من الفرح، ومتعجِّبون، قال لهم: أعندكم ههنا طعامٌ؟ فناولوه جُزءًا من سمك مشوي، وشيئاً من شهد عسل. فأخذ وأكل قدَّامهم».
لذلك من اليسير أن نفهم أن المسيح بحضوره في الإفخارستيا يشترك حقًّا. ومن أجل هذا تأخذ الإفخارستيا قداستها ورهبتها وحقيقتها الأولى في عشاء الخميس.
وفي قدَّاس القديس باسيليوس، تقول إحدى الأسبسمسات أثناء القبلة المقدسة: [ تعالَ إلينا اليوم يا سيدنا المسيح، وأضيء علينا بلاهوتك العالي].
وأيضاً في نفس موضع القبلة في القداس الكيرلسي، يقول الشعب الأسبسمس الآتي : [ عمانوئيل في وسطنا الآن، بمجد أبيه والروح القدس، ليُباركنا كلنا ويُطهِّر قلوبنا ويشفي أمراض نفوسنا وأجسادنا. نسجد لك أيها المسيح].
وفي أثناء التوزيع يُقال لحن:بي أويك Pioyk :[ونحن ننظرك كل يوم على المذبح، ونتناول من جسدك ودمك الكريم … إلخ].
فالإفخارستيا هي حضورٌ إلهي حقيقي، يقدِّسها المسيح بشخصه، ويُقيم سره فيها، وهو الذي يُناوِل بيده غير المنظورة، إنْ الجسد أو الدم.
فالمسيح عند وعده، لم يشترك مع تلاميذه في أيِّ إفخارستيا إلاَّ بعد قيامته. وقد كشف لنا التلاميذ هذا الحضور وهذه الشركة في الأكل والشرب بقولهم: «هذا أقامه الله في اليوم الثالث، وأعطى أن يصير ظاهراً، ليس لجميع الشعب، بل لشهود سبق الله فانتخبهم، لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات» .
وهكذا يتحقَّق لدينا حضور الرب في الإفخارستيا وتقديس أسرارها، واشتراكه فيها وتوزيعه لأسرارها بيديه. فهذه الإفخارستيا التي نصنعها لذكره، هو قائمٌ ومشتركٌ فيها. فأيُّ تذكار هذا إلاَّ ذِكْر حضوره!
أما مجيئه فسيكون لاستعلان القيم والحقائق العظمى للأسرار التي أكملناها باسمه وذِكْره، ولِبْس الأكاليل للذين أقاموا الذِّكْر حسناً. نعم، تعالَ أيها الرب يسوع. آمـين.